ليس المشهد العربي - الماثل أمامنا الآن - وليد الَّلحظة أو وليد المرحلة الرَّاهنة؛ إنَّه في الحقيقة تعبيراً عن أزمة عميقة الجذور؛ إنَّه تعبيرٌ عن أزمة الأنماط الثَّقافية، ومن ثمَّ أزمة الوعي والوجدان الجَمْعيَّان؛ وتعبيرٌ عن صفة القابليَّة للإختراق العميق لنسيج وواقع ووعي المجتمعات العربيَّة؛ وهو تعبيرٌ عن أزمة الثِّقة وأزمة الإنفصام المزمن في شخصيَّة تلك المجتمعات ما بين إرثها الحضاري والثَّقافي بكلِّيَّته بما له وبما عليه؛ وبين ضرورات الرَّاهن وضرورة امتلاك خطط وآليات بناء المستقبل؛ وهي إشكاليَّة الإنفصام بين ضرورة توفُّر الإيمان بالإنتماء لدى الفرد والمواطن والجماعة؛ وبين العيش في بيئة الإقصاء والتَّهميش والإضطهاد السِّياسي والإجتماعي والدِّيني والحد من الحرِّيَّات.
ثمَّ إنَّه أحدُ تجلِّيات الإصرار على التَّمسك بثقافة إدارة الفشل وتبرير العجز، والهروب من تحمُّل المسؤوليَّة الجماعيَّة؛ والهروب من مواجهة الحقائق والتَّعامل معها كما هي؛ دون تلوينٍ بحسبِ مقتضيات التَّحيُّزات الشخصيَّة للأفكار والمواقف والرؤى والخلفيَّات الثَّقافيَّة الجامدة؛ وبما فيها تلك الخلفيات الحزبيَّة والنَّخْبَويَّة والفئويَّة والمذهبيَّة والطَّائفيَّة؛ وحتَّى الشَّعبَويَّةِ منها.
باختصار إنَّ هذا المشهد هو أحد تجلِّيات أزمة الإنتماء، وأزمة التعبير عن الذَّات وعن الهويَّة؛ وأزمة ضياع الخيارات وعدم القدرة على ترتيب الأولويَّات؛ وهذه التَّجَلِيَات وبلا شك موجودة ومستقرَّة في الواقع العربي منذ انبثاق عهود الإستقلال للدَّولة الوطنيَّة والقطريَّة العربيَّة نهاية الرُّبع الأوَّل من القرن الماضي؛ والَّتي كان من المُفترض أنْ تمثِّل مدخلاً لعصرٍ من النَّهضة القوميَّة الشَّاملة؛ ولعصرٍ من التَّنوير والتكامل والتنمية والوحدة بأدْنى صورها.
كثيرةٌ هي الزَّوايا التي من الممكن تناول المشهد العربي المُتَهَتِّك المُتداعي الرَّاهن من خلالها؛ لكنَّ الأهم من كل ذلك هو ضرورة تناول الأمر من زاوية امتلاك الجرأة الأدبيَّة والنَّقديَّة الهادفة الى تحمُّل مسؤوليَّة؛ وامتلاك الجرأة على اعتماد منهج التأصيل؛ وذلك بالعودة الى الأصول والجذور الثقافيَّة والسَّيكولوجيَّة والوجدانيَّة المستقرَّة في الوعي العربي والَّتي أسهمت الى حدٍّ كبير في تشكيلِ معالم وسمات الشخصيَّة العربيَّة الرَّاهنة بأبعادها الوجدانيَّة والثَّقافيَّة والسيكولوجيَّة؛ بما قد أسهم في صياغة الواقع الَّذي نعيشه راهناً، والَّذي سَيُخدِّد بأخاديده الغائرة وجه مستقبل أطفالنا والأجيال القادمة.
فمن ذا الَّذي يتحمَّل مسؤوليَّة إضاعة فرص التَّعلُّم من إرثِ التَّجربة الطَّويل ؟. ومن ذا الَّذي يتحمَّل مسؤوليَّة بعثرة الوعي الجمعي؛ ومسؤوليَّة عدم توجيهه بشكلٍ منهجي بحيث يُفضي الى مشروعٍ نَهْضَوِيٍّ حَدَاثِيٍّ واقعي يمتلك الرُّؤية ويحدد الهدف بوضوح؛ ويمتلك آليَّات الوصول الى ذلك الهدف؛ بعيداً عن الشِّعارات العائمة في فضاءَات الأفكار المثاليَّة والرُّؤى النَّخبويَّة والنَّظريات الطوباويَّة غير ذي الصِّلة بالواقع؛ والَّتي تصوغ نصوصها وتحدد معالمها ودرجة تأثيرها التَّحيُّزاتُ الشخصيَّة والفئويَّة؟!.
فإنْ كانت جذور أزمتنا الرَّاهنة تكمنُ في الوعي وفي المنظومات الثقافيَّة وفي الوجدان الجمعي وفي البناء التربوي والسيكولوجيي وفي مؤسَّساتنا السِّياسيَّة والإجتماعيَّة؛ ولإنْ كان من الخطأ إقصاء أوتجاهل أيَّاً من تلك الأسباب التي ألمحنا إليها؛ فإنَّنا نجد أنفسنا أمام ضرورة الإعتراف بحقيقةٍ أساسيَّة ومواجهتها؛ وتلك هي المتَّصلة بتحمُّل المسؤليَّات للخروج من أزمتنا.
فبمقدار ما تتحمَّل الحكومات والأنظمة والدَّولة القطريَّة العربيَّة مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع؛ فإنَّ النُّخب وطبقة - الإنتليجينسيا أو المثقفين – والحركات والأحزاب وكذلك المؤسَّسات التربويَّة والإعلاميَّة؛ تتحمَّلُ هي الأخرى جانباً كبيراً من المسؤوليَّة تجاه ذلك.
وإذْ يبدو هذا الكلام - الَّذي سقناه آنِفاً - وكأنَّه ينفك عن واقع وإنفعاليَّة ما تشهده المنطقة من نزاعاتٍ وعنفٍ دامٍ ومدمِّر؛ إلَّا أنَّه ليس مجرَّدُ توصيفٍ نظريٍ لأزمةٍ مركَّبَةٍ متداخلة؛ بل هو محاولة للإشارة الى جذر الأزمة العميقة التي عبَّرت عن نفسها بهذه الصُّورة المرتبكة والعنيفة الى حدَّ الكارثة القوميَّة؛ إذْ إنَّ ما نشهده من هذا التَّداعي المُريع لاستقرار مجتمعات المنطقة العربيَّة ما هو إلَّا أحد أعراض تلك الأزمة عميقة الجذور.