هنا نلتقي
حين حدّثني صديقي الجميل أحمد زكارنة عن صدور صحيفة جديدة في فلسطين، وتكرم بدعوتي للكتابة فيها، أحسست أنني أقترب من فلسطين أكثر، فلأول مرة يحدث هذا بيني وبين مؤسسة إعلامية تصدر في وطني، وكان لهذا فعل الفرح المشدود، والجرح المضمّد، فقد استيقظت على حقيقة أخرى، تضاف إلى الحقائق المؤلمة التي تعتري النازح والغريب، هي أن عليّ التواصل عن بعد أيضا، مع رائحة الكلام في صحيفة تصدر في وطني، وأرسل إليها كتاباتي عبر جهة ثالثة.
صحيفة الحدث الفلسطينية، وأنا أطرب لهذه التسمية، وأحب أن أضيف (الفلسطينية) لاسم الصحيفة، كما أفعل مع كل شيء أستطيع الحصول عليه من فلسطين، كزيت الزيتون (الفلسطيني) الذي أحرص على الحصول عليه من قلب فلسطين كل عام، وفي كل مرة يتصل بي صاحب الشاحنة الناقلة ليخبرني أن (زيت الزيتون وصل، وإلك تنكة)، أشعر أنني ذاهب إلى كرم زيتون ومعصرة، ويتعزّز بي هذا الإحساس، حين أقابل ذلك الرجل السبعيني المرافق للشحنة، الذي لا يزال يضع الحطة والعقال على رأسه، وأشم كفّي بعد مصافحته لأتبارك برائحة الأرض، وهذا ما يحدث كلما فتحت صحيفة الحدث الفلسطينية، حتى ولو إلكترونيا، لأجد نفسي غارقاً في أخبارها ومقالاتها وتحقيقاتها، فأنتهي من تصفحها وما زلت أشعر بالظمأ، كأنني أريد من الصحيفة أن تنقل لي أخبار الأمس واليوم والغد في عدد واحد، حتى أرتوي.
صحيفة الحدث الفلسطينية تجعلني أشعر أنني عضو في (البرلمان الفلسطيني)، حيث سقف حرية التعبير عالٍ جداً، أقول ما أريد بالطريقة التي أريد، مع المحافظة على (أدب جم)، فالكتابة عن فلسطين وشؤون فلسطين تتطلب الطهارة قبل وأثناء وبعد الكتابة، والمحافظة على الطهارة في هذا الزمن الماكر والموبوء بالمتسلقين والمحبِطين والتجار الجشعين، أمر صعب جداً، لكنه لا يتطلب مهارة، وإنما يتطلب المحافظة على الجينات الموروثة من الآباء والأمهات والأجداد والجدات، وإطلاقها بعراقة وإخلاص ودفء، وهذا مديح للشعب وليس لفرد.
صحيفة الحدث الفلسطينية، حين أنشر فيها قصيدة، تجعلني أشعر أنني ألقي شعراً من على منابر المؤسسات الثقافية الفلسطينية كلها، رغم أنف الاحتلال الذي منعني من الزيارة، ورغم أنف كل من يحول دون وصول كلمتي إلى الأحباب، والصنف الأخير موجود ويتربع على قمة بعض المؤسسات الثقافية، وأذكر أنني تواصلت مع أحدهم لنشر ديوان شعر لي يصدر في بلدي، فاشتكى وبكى من قلة الموارد، فأبديت استعدادي لتحمل تكاليف الطباعة، لكنه راوغ وانسحب من الحوار بطريقة النقابيين المتحذلقين، ولم أعد المحاولة.
وبهذه المناسبة، مرور عام على صدور صحيفة الحدث الفلسطينية، أود أن أهمس في أذن من يهمه الأمر: فلسطين ليست ملكاً لأحد ولن تكون، بمؤسساتها الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والبيئية والثورية، وفلسطين عصيّة على التملّك، هي تمنح روحها لمن يمنحها عشقه، وتمنح عطرها لمن يتسع صدره لكل الفلسطينيين، وتفتح ذراعيها للمشتاقين، حتى أولئك المقيمين على أرضها، ويرونها كل يوم.
وبهذه المناسبة، أود أن أهمس في وجوه السياسيين: كونوا على قدر أهل العزم؛ وارتقوا إلى تضحيات شعبكم، وكونوا قادة تاريخيين لمرة واحدة في حياتكم، وتعلموا درسا واحداً من الدروس الكثيرة لأشجار السرو، وجذوع الزيتون والجميز والسنديان، ومن سور عكا وبحر غزة، عندها سيهتف الشعب باسمكم، ولن تحتاجوا إلى مؤتمرات اللجان التنفيذية والمجالس الثورية لاختياركم. وسيختاركم الحدث الفلسطيني دون صناديق اقتراع.
وبهذه المناسبة أهمس في عيون القائمين على الثقافة في بلادي: اجمعوا شمل الكتاب والمبدعين الفلسطينيين في الوطن وأماكن الشتات، ولا تجعلوهم ضائعين بين اتحاد كتاب محلّي لا يعترف لهم بعضوية كاملة، وبين اتحادكم الذي يهملهم، بينما التواصل معهم يقع ضمن مسؤولياتكم، فبادروا بفتح فروع للاتحاد في كل مكان يوجد فيه كاتب فلسطيني، وابحثوا عنهم ولا تدعوهم يبحثون عنكم، وغادروا أوهامكم قليلا، فالكراسي كموج البحر، صحيح أن صحيفة الحدث الفلسطينية تحاول ردم الفجوة التي خلقتموها ووسعتموها بينكم وبين الكتاب والمبدعين، ولكنها مؤسسة إعلامية في المقام الأول، فاخلقوا معها شراكة ليكتمل المشهد.
وبهذه المناسبة، أهمس في وجوه الدبلوماسيين الفلسطينيين: لم تصبح فلسطين دولة مستقلة ذات سيادة بعد، حتى ترضخوا تحت ألقاب (أصحاب السعادة)، فأنتم ممثلون لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذه المنظمة ليست لأي فصيل فلسطيني، وبالتالي، يحق أن يمثلها أي إنسان فلسطيني يتمتع بكفاءة وإخلاص عاليين، ويكفيه أن يكون منتمياً لفلسطين، خلافا لما يحدث الآن، فغادروا أيها الدبلوماسيون الفلسطينيون ياقاتكم البيض، ومكاتبكم الفخمة، لن تهرب الكراسي حين تغادرونها لتتفقدوا أوضاع الجاليات الفلسطينية، فالكراسي خلقت للمتعبين القادمين من جولات مرهقة، وليست للفصل بينكم وبين الفلسطينيين، فأنتم خدمٌ لهم، وهم ظهوركم الحامية.
مبروك لصحيفة الحدث الفلسطينية، ولهيئة تحريرها وكتابها وقرائها الورقيين والإلكترونيين، ومبروك للساحة الإعلامية الثقافية الفلسطينية والعربية، على هذه الإضافة النوعية، وإلى الأمام.