السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

صراع بين عالمَين على الأغوار: الحرب على الفراغ الاستراتيجي

2013-12-09 00:00:00
صراع بين عالمَين على الأغوار: الحرب على الفراغ الاستراتيجي
صورة ارشيفية

الأغوار- جميل عليان

يخترق شارع مرصوف سلسلة مزارع  خضراء تدار بتقنية متقدمة، وعلى مقربة ثمة منازل وطرقات وأشجار وارفة الظلال تكون في مجملها أول «كيبوتس» زراعي أقيم في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967؛ هذه مستوطنة (ميحولا).

فثمة شبكات اتصال متطورة وخدمة انترنت وسيارات حديثة وأبراج مراقبة تحول كل ذلك التجمع الزراعي المحصن إلى حي ديني محروس بقوة عسكرية.

على بعد مئات الأمتار جنوبا تقع الفارسية، واحدة من التجمعات الفلسطينية التي أقيمت أيضا قبل عام حرب النكسة بكثير؛ منازل هشة تضربها الريح من كل اتجاه؛ طرق ترابية، بقايا أعمدة حديدية لرياض أطفال لم يكتمل بناؤه منذ سنتين. هنا كل علامات الحياة في عالم ثالث تطفو على سطح الأرض الملتهبة صيفا والموحلة شتاءً.

على امتداد الشريط الشرقي للضفة الغربية، الذي يشكل نحو %25 من مساحة الأراضي الفلسطينية للضفة الغربية لنهر الأردن، بنيت سلسلة من المستوطنات اليهودية الزراعية الضخمة، مباشرة عند أهم منابع المياه فوق الحوض الشرقي.

إنها الحديقة الخلفية لدولة فلسطين، والفراغ الاستراتيجي الذي يمكن تعبئته بالتجمعات السكانية، وهي ذاتها رأس حربة الاقتصاد الزراعي الاستيطاني. من هنا من (ميحولا) ذاتها تصدر الأعشاب الطبية والعطرية إلى العديد من دول العالم.

وبالاقتراب كثيرا من سياج واحدة من تلك المستوطنات التي بنيت على  سفوح الهضاب التي تطل على نهر الأردن وهو خط الحدود الطبيعية مع الأردن، يظهر مدى استغلال الأرض الزراعية المنبسطة المحاذية للنهر من ناحية الغرب.

يمكن استطلاع قوة الاقتصاد اليهودي في المنطقة وتلاشي الاقتصاد الفلسطيني من نظرة واحد من فوق واحدة من هذه التلال.

يقول الفلسطينيون، إن لا دولة بدون الغور، ويقول الإسرائيليون، إنهم لن يتخلوا عن الحدود الشرقية. لكن حتى الآن يبدو وضع الفلسطينيين في تقهقر.

فإسرائيل ماضية في هدم كل ما يتمكن الفلسطينيون من بنائه على الأرض، والأمر بالنسبة لكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات يعني «جرائم حرب»، وهو كذلك في القانون الدولي.

في الجزء المتعلق بالفلسطينيين لا يمكن توقع ما يجري، فقط احتمال أن يحول عالمهم الأول إلى أكوام من التراب والحديد المحطم هو الاحتمال الوارد.

يمكن لعلي الذي لا يفضل ذكر اسمه الثاني أن يكون مثالاً كاملاً لحياة الفلسطيني في عالم مركب من عالمين، فالشاب النحيل وهو في أواسط العشرينيات من عمره، لا يرى ظاهريا أن الفرق كبير بين عالمه في خيمة الخيش وبين عالم (جيرانه الأعداء) في المنازل المكيفة بالهواء البارد، فقد اعتاد هذه الحياة، هو وغيره من سكان المنطقة.

 لكنه يمكن أن يقول بكل بساطة: إنها السياسة، أو بتعبير آخر الحكم المطلق لقوة احتلال عسكرية إسرائيلية.

تمنع إسرائيل الفلسطينيين من تنفيذ أي من مخططات مشاريع البنية التحتية في المنطقة المصنفة (ج) حسب اتفاقيات أوسلو إلا في حدود ضيقة، كما يقول مسؤولون فلسطينيون.

ومعظم منطقة الغور باستثناء أريحا وبعض القرى الزراعية تقع تحت سيطرة إسرائيلية كاملة. لذلك يمكن لإسرائيل واقعياً وبقرار من أعلى هيئة قضائية فيها مثل المحكمة العليا أن تصدر قرارا يتيح للجيش هدم العالم الثالث بقوة احتلالية عسكرية ضخمة يمتلكها العالم الأول.

هكذا حصل مؤخرا في كثير من مناطق الوجود الفلسطيني الذي يشكل في مجمله مشاريع زراعية عائلية صغيرة.

«يستطيعون هدم كل شيء. هدموا كل شيء. بإمكانك النظر إلى هذا الركام الذي خلفته الجرافات الإسرائيلية» قال رئيس مجلس محلي المالح عارف دراغمة مشيرا إلى مساكن من القصدير والخيش هدمت مؤخرا في المنطقة.

وأضاف: “الأمر لا يتطلب أكثر من ساعة (...) خلال ساعة واحدة يعيدون كل شيء إلى مستوى الأرض. يسوون المساكن مع الأرض المقامة عليها”.

إنها الحياة بسرعة ضربة جرافة. هكذا بدا الأمر لبرهان الأسمر، هو شاب في أواسط الثلاثينيات من عمره أطاحت الجرافات بكل مكونات حياته، التي تقوم على خيمة صغيرة وقطيع من المواشي لا يتعدى الـ 200 رأس.

ذاتها خربة الفارسية التي يسكن فيها علي هدمت أيضاً مرات عديدة، بعد سنتين من هدم المساكن والحظائر يمكن ملاحظة بعض ألواح الزينكو مرمية على الأرض دون أن تتاح فرصة إعادة بنائها.

يقول رئيس المجلس الذي يدير منطقة المضارب الرعوية: «لا شيء يمنعهم من الهدم. كل شيء جائز هنا إذا وقفت فوق تلك التلة يمكن أن ترى كيف يبنون».

من على تلة صغيرة تفصل بين الفارسية وبين «ميحولا» يمكن استطلاع حال العالمين: أبنية خرسانية تبنى داخل ميحولا، ومساكن مهدومة يمنع أصحابها من إعادة بنائها.

هكذا حصل في مساكن تسكنها عائلة علي في الفارسية، وهو الأمر الذي حصل في معظم التجمعات الفلسطينية، وكما حصل في مكحول التي شهدت مشادات دولية، بدت فيها كل جهود الفلسطيني الرسمية والدولية غير قادرة على منع الإسرائيليين من تنفيذ مخطط الهدم.
قال رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات فيما كان يجول بين خيام ومساكن من قصدير هدمت قبل أيام قليلة فقط هنا في خربة مكحول: «إن ما جرى في خربة مكحول هو جريمة حرب، يسعى الاحتلال من خلالها لفرض إملاءات وأمر واقع على الأرض».

وأضاف «إنه لا يمكن أن يستمر الطرف الدولي بغض الطرف عن جرائم الاحتلال ضد المواطنين، وعلى المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي الضغط على حكومة الاحتلال لوقف ممارساتها وتجريم التعامل مع المستوطنات التي تعتبر المعيق الرئيسي لقيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وحسب قرارات الشرعية الدولية».

وأشار إلى أن الاحتلال يريد أن يبقي غور الأردن وثرواته تحت سيطرته، استمرارا لنهج الاحتلال في سرقة مقدرات الأغوار والتي تبلغ 610 ملايين دولار سنويا.

لكن ماذا يمكن للطرف الدولي أن يفعل؟

فقد يدفع إحدى دبلوماسييه ثمن الترحيل من الأراضي الفلسطينية إذا ما حاول مواجهة القوة العسكرية التي تقوم بهدم هذا العالم الثالث!

ظهيرة يوم حار وصلت ماريون كاستينج وهي دبلوماسية فرنسية على رأس وفد دبلوماسي يضم أيضا ممثلين عن الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية دولية إلى خربة مكحول، المنطقة المحاصرة بمعسكرات جيش الاحتلال ومحطات الرادار المتقدمة.

كانت كاستينج المرأة رقيقة البنية، وحادة النظرات، تريد المساعدة في  بناء ما كان الجيش قدم هدمه، لكن بالنسبة للسكان فإن كل ما جرى من محاولات سابقة لم يرفع مستوى الآمال كثيرا.

فجيش الاحتلال حظر البناء، وقرر هدم ما يعاد بناؤه ولو بأياد دولية هذه المرة. 

فقد اعتدى الجيش على الدبلوماسيين، وكادت أن تحدث أزمة دبلوماسية، وقررت فرنسا وإسرائيل إنهاء خدمات كاستينج الدبلوماسية في المنطقة.

قال رئيس مجلس قروي المالح والمضارب البدوية عارف دراغمة، إن الإخطارات هذا العام وصلت 300 منشأة بالهدم والتوقف عن البناء في أراضٍ يملكها المواطنون.

لكن في نفس الوقت ماذا يحدث في العالم الأول؟ عمليات البناء مستمرة في المستعمرات والكيبوتسات الزراعية. وهي ذاتها في المستوطنة التي يعمل فيها علي وغيره من العمال الفلسطينيين تتوسع شرقا.

من على بعد يمكن رؤية بركسات جديدة أقيمت خارج سياج مستوطنة «روتم» المقامة على قمة جبل يشرف على خربة الفارسية حيث تسكن عائلة علي وعائلات رعوية أخرى.

«إنهم يبنون في كل مكان. هنا وهناك» قال عارف دراغمة “ هذه مستوطنة «بسكيوت» ليست بعيدة من هناك توسعت كثيرا وبنيت فيها عمارات كبيرة”.

مقابل «مسكيوت» هدم الجيش الإسرائيلي مساكن للرعاة في منطقة عين الحلوة.

ففي الوقت الذي تفرض فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي  سياسة فرض الأمر الواقع، عبر بناء المستوطنات الزراعية، وافتتاح مشاريع زراعية ضخمة، يحاول الفلسطينيون البقاء في مناطق سكناهم عبر الاستمرار بالبقاء في مساكن متداعية، إذ يمنعون من بناء المساكن الخرسانية في تلك المناطق.

وتظهر التجمعات الرعوية الفلسطينية كبقع متناثرة ومحاطة بتلك المستوطنات.

قال دراغمة: «إنهم يبنون في كل مكان، لكننا ممنوعون من بناء غرفة واحدة للمجلس. كل شيء يحدث هنا مهيء للتبرير، فالإسرائيليون يبررون ما يقومون به بحجج كثيرة».

وأضاف بينما كان يستمع لشهادات من السكان حول طبيعية حياتهم بعد هدم الجيش: لمساكنهم “يريدون إلغاء الوجود الفلسطيني هنا، الحكومة الإسرائيلية تستخدم كل الأساليب لإنهاء الحياة في المنطقة”.

وبرأي مراقبين فإن أي حياة فلسطينية تقوم على اقتصاد عائلي قادر على البقاء تقترب من نسب متدنية، تزامنا مع محاولات إسرائيلية لتفريغ الأرض.

في الغور لا يصعب العثور على إنسان متشائم من المستقبل.

قال جهاد حرب وهو محلل سياسي مقيم في رام الله، إن ما يجري في الغور: “حرب إرادات. لكن يمكن القول إن إسرائيل استفردت في هذه المنطقة منذ وقت طويل”.

«أرادوا السيطرة على المنطقة لأمرين مهمين (...) هكذا عملوا طوال هذه السنين» وأضاف حرب الذي يرى أن إسرائيل استخدمت المنطقة كمخزون وسلة غذائية وعمرت فيها المستوطنات الزراعية، وفي نفس الوقت لم تتوقف عن تبرير استخدام هذه المنطقة كعازل أمني لرد أي هجمة من جهة الشرق».

لكنه يقول في الوقت نفسه إن: «هناك إهمالاً واضحاً من قبل الحكومات الفلسطينية المتتالية لمنطقة الغور”.واضح أن مجموعات صغيرة من سكان الغور تقاوم بإرادتها للحفاظ على مناطق سكنها وعملها في الزراعة ورعي المواشي.

«هذا جزء من صراع إرادات بين سكان فلسطينيين ومستوطنين موجودين بقوة الإغراءات وبحماية عسكرية». يردد المعنى ذاته فلسطينيون يعيشون في مضارب رعوية يشيرون إلى الفارق بين حياتهم وحياة “جيرانهم الأعداء في المستوطنات”.

من خربة الفارسية يمكن لأي مزارع أن يشير إلى طبيعية الحياة في مستوطنة «ميحولا»، كما يمكنه الحديث ببساطة عن توفر المياه والكهرباء للجيران.

لكنه يشير في الوقت نفسه إلى قنديل يعمل بالكيروسين لإضاءة ليله المعتم في ليالي الشتاء الطويلة.

«إذا ما استمر تهجير السكان في هذه المنطقة، قد يأتي يوم لا نلاحظ فيه أي تواجد فلسطيني. يجب أن نغير أدوات العمل في منطقة الغور ولا نترك السكان لوحدهم».

لكن على أرض الواقع تبدو أدوات العمل الفلسطيني محدودة في مواجهة قرارات إسرائيلية متتالية للحد من حركة الفلسطينيين من جهة، ومواصلة تعزيز الاقتصاد الزراعي في «الكيبوتسات» من جهة أخرى. فالعمل في توسيع المزارع التي يديرها المستوطنون مستمر.

وقال محمد أبو علان وهو مدون فلسطيني متابع للشؤون الإسرائيلية: «ما يجري في منطقة الأغوار من ممارسات إسرائيلية لا يختلف كثيراً عما يجري في جنوب جبل الخليل من عمليات تهجير للفلسطينيين والتي تهدف لتقليل حجم المساحة الجغرافية التي يعيش عليها الفلسطينيون».

ويضيف: «ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من عمليات تهجير في منطقة الأغوار عبارة عن ترجمة فعلية لقرارات المستوى السياسي الإسرائيلي».

وقال “داني دنون” نائب وزير الحرب الإسرائيلي لصحيفة «هارتس» العبرية» مع تجدد المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بأن حكومته تريد حلاً سياسياً يضمن أكبر قدر ممكن من السيطرة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية.

والخطة  السياسية لنفتالي بنت رئيس حزب البيت اليهودي، وحليف نتنياهو في الائتلاف الحكومي تقوم على أساس ضم المناطق المسماة «ج» لدولة الاحتلال الإسرائيلي كونها مساحات جغرافية واسعة ويسكنها فقط حوالي 50 ألف فلسطيني، وإعطاء السيادة للسلطة على مناطق (أ و ب) وشق طرق تضمن وصول الفلسطيني من جنين إلى الخليل دون المرور بأي حاجز إسرائيلي.

وقال أبو علان معقبا «من هذه المنطلقات السياسية، تعمل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على تنفيذ سياسة التهجير لسكان منطقة الأغوار عبر تضييق سبل العيش عليهم، وحرمانهم من أبسط الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والكهرباء والمياه».

ويضيف «ومن يصمد من سكان منطقة الأغوار أمام هذه الإجراءات الإسرائيلية تلجأ قوات الجيش لترحيله بالقوة عبر هدم المضارب المقيمين بها، أو عبر عمليات الترحيل المتكررة بحجة المناورات العسكرية».

ويقول أبو علان: «السلطة الوطنية الفلسطينية ليس بمقدورها تقديم الكثير لمنطقة الأغوار لسبب رئيسي واحد وهو أن اتفاقيات أوسلو وضعت كافة القضايا الأمنية والإدارية في هذه المناطق بيد حكومة الاحتلال الإسرائيلي لحين انتهاء المرحلة الانتقالية التي كان من المقرر أن تنتهي خلال خمس سنوات، ولم تتم لتراجع الاحتلال عما اتفق عليه تحت حجج أمنية واهية».

بالتالي لم يتبق أمام السلطة إلا تقديم المساعدات الإغاثية التي لا تشكل العامل الحاسم في تعزيز صمود سكان الأغوار أمام ممارسات الاحتلال في تلك المناطق، بالإضافة للخدمات الإغاثية تقدم السلطة الوطنية الفلسطينية المساعدات القانونية لسكان الأغوار.

وقال أبو علان: “إن فائدة هذه الخدمة تكون لأيام أو أسابيع فقط كما كان الأمر في خلة مكحول”. 

وعودة لموضوع الأغوار في السياسة الإسرائيلية، نشرت صحف عربية وإسرائيلية عرضا إسرائيليا خلال المفاوضات الحالية فحواه أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي تريد سيطرة كاملة على منطقة الأغوار لمدة أربعين عاماً، مما يعني أن قضية الأغوار ستكون عقدة إضافية تضعها حكومة الاحتلال الإسرائيلي أمام إمكانية التوصل لأي حل سلمي دائم في المستقبل