بقلم: أمين دراوشة
تزدهر القصة القصيرة جداُ في الوطن العربي، ذلك بعد أن وضع أساساتها، وتمكنت من الكتّاب والقراء، ومن الملاحظ إنها أصبحت المحببة والمفضلة للتعبير عما يجيش في القلب من عواطف وجدانية، وما يرافق ذلك من أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية مضطربة في كل أرجاء الوطن العربي. ويدلل على ذلك الكم الهائل من المجموعات القصصية التي صدرت خلال السنوات القليلة الماضية. وكذلك الندوات والمؤتمرات حول هذا الفن الجديد والاحتفاء به.
إن القصة القصيرة جداُ اقتحمت المشهد الأدبي بقوة في كل بلد عربي، لأنها تناسب أدوات الاتصال الحديثة كالهواتف الخلوية، وكان لانتشار الشبكة العنكبوتية وما رافقها من انتشار هائل لمواقع التواصل الاجتماعي من قبيل فيسبو وتويتر وغيره أثره الكبير في تفضيل المؤلفين لها، فهي تلائم أيضا القارئ الذي يجلس في الأغلب في مكان مقفل كغرفة نومه أو في مقهى أو مطعم، أو مكان متحرك كالطائرة والقطار والحافلات. كما أنها لا تتطلب الوقت الطويل لقراءتها، لذا ولكل ذلك تفاعلت بقوة على شبكات التواصل الاجتماعي، التي أثرت بدورها على حجم القصة ولغة الكتابة وإشاراتها.
اعتبر بعض النقاد القصة القصيرة جدا امتدادا للأشكال التعبيرية القديمة التي كان من وظائفها الإخبار والترفيه، وإطلاق وميض الحكم. فقالوا إنها أخذت من النادرة والطرفة والحكم والأمثال، والبعض الآخر تحدث إنها ابنه شرعية للقصة القصيرة واستعارت تقنياتها ومميزاتها منها.
فلغتها التعبيرية مختصرة وتنبذ الحشو والإطناب، وقصدها ينطلق كوميض رصاصة ظاهرة.
ولا "غرابة أن تميل العربية والعربيُّ إلى الاختزال والوضوح والقصد في التعبير، نثرا وشعرا وأمثلة سائرة، لأن في الحذف تختزن طاقة الإبداع وتتصارع التأويلات، وحرفية المتكلم المبدع الذي ينظم حبات العقيق في الخيط متراصة متناغمة متناسقة تنضح بالمعنى".
(محمد معتصم. الخيبة المبهجة قراءات لتجارب من القصة القصيرة في الأردن. عمان: منشورات دار أزمنة للنشر والتوزيع. ط1. 2013م. ص 141.)
وتستفيد القصة القصيرة جداُ من " الطاقة الباطنية الكثيفة التي تحفز وعي المتلقي على تجلية المعاني الخفية في ذهنه والمماثلة لما تختزنه القصة القصيرة جدا تركيبا ومحتوى وغاية". (المرجع السابق. ص 141)
ويقول أحمد جاسم الحسين عن القصة القصيرة جدا إنها نص إبداعي متماسك يترك أثره في القارئ ويحثه على مزيدا من القراءة وبالتالي تشكيل ثقافته عبر تناصاته ورموزه وقراءاته.
فللقصة القصيرة جدا مميزاتها، وأهم ما أتفق عليه النقاد هي ميزة الحكائية، فهي شكل سردي وبالتالي تبدأ من الفكرة ومعالجتها "من خلال أحداث مركزة، تؤدّيها عوامل وشخوص معينة وغير معينة، في أفضية محدّدة أو مطلقة، مع الاستعانة بالأوصاف المكثفة أو المسهبة، عبر منظور سرديّ معين، ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطئا". (جميل حمداوي. من أجل مقاربة جديدة لفن القصة القصة القصيرة جدا، موقع دروب 2009م، ص33)
مع اختيار مفردات لغوية وأسلوب معين للتعبير عن رؤية ومرجعية.
وبالتالي هي تروي حكاية ما عن شخص أو أكثر أو اختيار حادثة معينة من تاريخ الشخصية، فهي لا تحتمل كثرة الأحداث والشخصيات لذا هي تبدأ من الفعل نفسه.
يأخذنا القاص بسام الحاج في مجموعته القصصية في رحلة جميلة وقاسية في آن، لنحدق بأوجاعنا وهواجسنا، لنرى حلمنا الكبير وهو يسقط ويتكسر وتجرف السيول بقاياه إلى البحر فبداية العلاج معرفة الداء، ولا يمكن طرد الظلام دون معرفة قيمة النور. يسيطر على أجواء القصص الحزن على ما آلت إليه الأوضاع الوطنية والقومية في عالم عربي يزخر بكل مقومات النجاح.
يخيم الحزن والألم على أجواء القصص، ويعبر الكاتب عبر شخصياته المتنوعة عن حالة الضياع والظلام الذي يخيم على حياة الناس في البلاد...
فالمجموعة تمتلئ بالألفاظ والمعاني الدالة على الخوف والإحباط والعجز، بل إن الكاتب اختار عناوين الكثير من القصص لتعبر عن العقم والسواد، ومن هذه العناوين نذكر: (رؤية قاصرة، محتار، سجناء، صدمة، إجرام خفي، مرارة، عقوبة، أسير). وينتقلنا القاص من الهم الوطني إلى الهم القومي، فالوطن العربي في النهاية وحدة واحدة إذا تألمت القدس صرخت عمان من الألم، وإذا أنّت دمشق لن تنام بغداد ليلتها.
وكان تركيز القاص في قصصه على الهم الاجتماعي والسياسي، وتنوعت الأساليب القصصية لتخدم هدف الكاتب. ففي "مساعدة" تناول مآل الأوضاع الاجتماعية- السياسية المحزنة في فلسطين، حيث الفقر ينشر بساطه الواسع، والغنى يحتفظ بمساحته الضيقة، ويغير طبائع الأشياء، ويخرب النفوس، يقول:
"كتب إلى زعيم الأمة خطابا حزينا، يطلب منه مساعدة، لتوفير منزلٍ بسيط يقيهم برد الشّتاء القارس.
طلب منه المسؤول كتابا توضيحيا بعدد أفراد الأسرة، ليتم دراسته جدّيا مع الجهات الدّاعمة.
لم يردّ على كتاب الحاكم، فقد جاءت غارة ثانية قتلت جميع أفراد الأسرة ليناموا بدفءٍ ناعم". (بسام الحاج. "حنّون أيّار". فلسطين: دار الهدى للطباعة والنشر. 2016م. ص 50)
فالمواطن الفلسطيني الذي يتعرض سكنه لقصف الطائرات والمدافع، لا يجد أحد يمد له يد العون، فبعد هدم منزل بطل القصة، ولجوءه إلى الحكومة لمعاونته على إعادة بناءه أو توفير بيت صغير لإيواء ما تبقى من عائلته، تأخذ الحكومة البيروقراطية وقتها في دراسة الأمر، وتطلب كتابا يوضح حالة الأسرة وعددها، وفي النهاية يتم حفظ الملف، فالعائلة كلها قتلت بغارة ثانية للاحتلال.
وفي قصة "استبدال" يقول:
"حضر مصورون إلى أحد الأحياء المدمرة، وبدؤوا يصوّرون الدّمار...
هناك في زاوية أحد البيوت المدّمرة، جلست طفلةٌ بريئةٌ تلملم ما تبقى لها من ذكريات.
أسرع إليها المصورُ يوثّق برنامجه، فرفعت يديّها عالياً، وهي ترتجف". (ص 36)
يوفق الكاتب في إحداث الدهشة لدى القارئ من خلال التلاعب بالكلمات، فالكاتب يوجه القارئ إلى مكان، ويشعر إنه يسير في خط مستقيم، ليحدث الكاتب الانحناءة المفاجئة، فالمصور الذي رأى الطفلة بين أكوام الدمار، يسرع إليها لا لنجدتها، بل من أجل التقاط صورة لها قد تكسبه جائزة، فما يكون منها إلا أن ترفع يديها أمام الكاميرا معتقدة إنها سلاح.
كما يتناول الكاتب قضية النفاق والأقنعة المزيفة في قصة "ديمقراطيةٌ":
"في يوم المراة العالمي، أحضر هديةً لزميلاته الموظّفات، وقدّم وردة لكلّ واحدةً منّهن.
ودعا لهنّ بطول العمر والسّلامة، فكان الزّميلات يسعدن كثيرا بتكرار مقولته المشهورة: أنتنّ نصف المجتمع، وأساسٌ لنهضتنا.
وقال: أرجو أن تستمتعن في هذا العيد.
غادر كي يزور زوجته في المشفى، التّي تعاني رضوضاً برأسها من بطشه صباح هذا اليوم". (ص 24)
فالمدير الذي يظهر وده ومحبته إلة الموظفات، ويتذكرهن في المناسبات، ويحضر لهن الورود، يخفي وراء قناعه الصورة الحقيقية وهي إنه رجل قاس ومعتدي ومستبد، ولا يتوانى عن ضرب زوجته ضربا مبرحا أدى لدخولها المشفى.
وفي قصة "تعاطف" ينقلنا الكاتب إلى حالة الانظمة في البلدان العربية، التي تظهر إنها تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني الضعيف أمام آلة الاحتلال البغيضة، يقول:
دخلوا عليه بعد أن مرّوا بحواجز تفتيش كثيرة، شرحوا له بأن القدس قد دنّسها الاحتلال، وعاث فسادا، وأن الأرض لن يعيدها إلا بالقوة.
صاح بالحاجب: يا غلام: هات الطّعام للضيوف...". (ص 42)
يستخدم القاص أسلوب السخرية ليصل إلى مراده، إن الأنظمة العربية عاجزة وعقيمة ولا فائدة مرجو منها، فهي لا تفلح إلا بإقامة الولائم.
ويعبر في قصة "توجيه" عن موقفه الإيديولوجي، فهو لا يرضى الوهن ولا البكاء على الأطلال، لذا يقول في قصته على لسان الشخصية:
"سألهم: ما بالكم تبكون؟
أجابوه:
- سرقوا أوطاننا، وقتلوا آباءنا وإخواننا.
- وما هذه الّتي في أيديكم؟
- هي مفاتيح بيوتنا الّتي هُجّرنا منها.
صاح بهم:
- أبوابكم غُيرت أقفالها، أذيبوا مفاتيحكم، واصنعوا منها بنادق". ( ص29)
فالعيش في الماضي لا يجدي ولا يرجع أوطان محتلة، لذا يطلب الشخصية الرئيسية في القصة من الناس أن يذويبوا مفاتيح بيوتهم القديمة، فالاحتلال هدم وغير ولا قيمة لها، وهو لا يفهم إلا لغة القوة والبنادق.
يتناول القاص الكثير من الموضوعات الاجتماعية، فيتحدث عن الواسطة والمحسوبية (قصة تصحيح) عن الفساد والتسلق (قصة الثمن) عن الرياء والنفاق (قصة سخاء) عن سوء التعليم (قصة مرارة) عن السجن القبيح (قصة سجناء)، وعن الوطن والنضال في الكثير من القصص.
وكنت أفضل لو وضع القاص قصة "حنّون أيّار" في آخر المجموعة، لأنها من القصص النادرة التي عبرت عن الأمل بالغد الآتي، ففي نهايتها بقول على لسان الشخصية: "ستبقى...حتى تقتل خوفَك...وتضغط على الزّناد، وسيزهر الحنون...حينها سأحيا...". (ص 8)
المجموعة هي الأولى للكاتب، وقد نجح في كتابة الكثير من القصص المكتملة والمحققة لشروط القصة القصيرة جدا، وفي بعضها كانت الانشائية، وغياب الحبكة واللحظة الدرامية سببا في عدم تحقيقها للغاية.
يضع الكاتب لبنته الأولى في مشروعه الأدبي، الذي ما زال طويلا، والأكيد إنه في مؤلفاته القادمة سيكون قد أطلع أكثر على نماذج من القصة القصيرة جدا لكبار كتابها كمحمود شقير وعبد الله المتقي وزكريا تامر ومصطفى لغتيري وغيرهم، وقرأ دراسات نقدية كثيرة لتكون ذخيرة لديه ليكون عمله المرة القادمة أكثر عمقا واحترافا، وفي أجمل صورة.