في الطريقِ إلى عسقلان، والساعة السادسة مساءً، كان وحده في صندوق الشاحنة ، مُكبَّل اليدينِ والساقين بطريقة صارمة؛ لقد جعلوا من جسده علامة إكس، بينما هو على مقعد حديد في شاحنة نقل الأسرى، حيث قيّدوا يده اليمنى بساقه اليسرى، ويده اليسرى بساقه اليمنى!
أرادوا تأكيد السادية والنفي والتغييب بهذه الطريقة غير الدارجة في تقييد المعتقلين، وربما شاءوا إخباره ، بوضوحٍ ؛ بأنه لا يشكِّلُ أكثر من " إكس " وبإمكانهم شطبه !
حين تحرّكت المركبةُ خارج أسوار المعتقل، أطلق تلك الابتسامة الواثقة ذاتها، التي دَفَّتْ بين الجنود الذين حاصروه في قاعة المحكمة، قبل خمس عشرة سنة، وراحتْ تتناسخ، مثل الغيوم، في آفاق الكوكب، لتصبح رمزاً للحرية ، بعد أن اصطادتها عينُ الكاميرا، وأرسلتها في كلّ اتجاه .
لقد كان مدركاً للمعنى الذي أرادوا إثقاله به، وأنهم أرادوا تحطيم إرادته ، عندما عزلوه ، خارج الزمان والمكان ، في تلك الزنزانة البائسة، المعتمة الرَّطبة في باطن الأرض.. فقال في نفسه ليعزّز علياءَها ؛ لكَ الله يا جسدي المنهك! لم يتبقَ أمامك سوى خطوتين أو ثلاثة من درب الملح، وسوف يخضعون .. لا عليك، سيزهرُ جوعنا شمساً!
بفطرته المعجزة ، وبتجربته الرّصينة ، عَرفَ أنّ نقله في هذه الساعة المفاجئة، إنّما يعني أنهم خضعوا لإرادة الروح، وأنّما يفعلونه الآن من اجراءات قاسية ، في نقله وتفتيشه وتقييده ، ما هو إلا محاولة أخيرة ، من أجل إرهاقه جسدياً .. حتى يرضخ لمطلبهم بإنهاء الإضراب.
ربما أغمض عينيه ، وهو يعيد ترتيب المطالِب ، التي تمّ الإعلانعنها في السابع عشر من نيسان 2017 ، أهدافاً للإضراب .
لقد توافقوا على الحدّ الأعلى من المطالب الإنسانية العادلة ،حتى يبلغوا أفضل ما يمكن ، منها ! فتلك طريقة الغزال في مراوغة عين البندقيّة.
قال له أحدُ إخوته في السجن ، وهم يصوغون المطالب : سوف نطالبهم بفسحة يومية إلى شاطئ البحر ، لنحصل على وقت إضافي نقضيه في ساعة الشمس أو ما تعرف في المعتقلات بـاسم "الفورة".
سارت حافلة النقل بسرعتها القصوى، وخلفها بوابة سجن الجلمة، متجهة صوب الجنوب، حيث وضعت لجنة الاضراب على طاولة التفاوض في سجن عسقلان أوّل شروطها في وجه السجان: حضور قائد الإضراب أولا!
لم ترَ عيناهُ المدن التي اجتازتها الحافلة في تلك الطريق الجارحة، إلا أن البلاد كانت تعبر معه درب الملح صوب شمسهاالحرّة !! وربما كان يحلُمُ ، في تلك اللحظة ، بأنّ قلقَ الأمهاتِ استحال إلى مناديل تتماوج في الآفاق وتصنع حوله دارةً من أدعية ودموع، وعلى التلال المقابلة للبحر، ثمّة إمرأة تنظر للنجم البعيد، وقد تركت شَعرها للخيل إلى أن غطّى أعرافَها، وكان وهجه الساطع يركُض، أو تحمله النسائم غيماً من حناء!
والعشق ينبتُ غلالاً تفيض وتعلو مثل أقواس قزح .. تلحقُ بالحافلة، وتنشد للنهار أغنيات الشغف والاشتياق، وتوزّع حلوى ضحكتها الوردية على الشرفاتِ المشرعة للقاء الرجال العائدين.
وثمّة فَرَاشة تتقافزُ نحو الشمس، تحثّها البزوغَ ، أو تجعل من اسمها نداءً جديداً لشروق البلاد ، ليردّد الأطفالُ نشيدهم ، كُلّما انفتحت لهم شبابيك الحياة.
وأمام سجن عسقلان، توقّفت الحافلة ، وفتح الجنود بابها الحديدي السميك، كانت النجمة الكونيّة التي تضوّرتْ من أجساد فرسانها، تتهيّأ لفجر بلون أزرار الملح البيضاء، التي تُذيبُ القيد والبرد والتخلّي، وتصنعُ من خيوطها الأولى إطاراً ذهبياً لصورته الفذّة ، وهو يُعلي يديهِ المكبّلتينِ فوق رؤوس الجنود والبوابات والغيوم.. واعداً بالنور ومبشّرا بالخلاص.