خمسون عاماً تماماً وكمالاً مرَّتْ على حرب عام 67، بهذه المناسبة تمَّ نشر وثائق – دعائيَّةٍ مُفَخَّمَةٍ - تتعلَّق بملابسات اتِّخاذ قرار الحرب وببعض مجرياتها، وببعض ما جرى من نقاشٍ لدى الطَّبقة السياسية في إسرائيل في أعقابها.. هل كنَّا بحاجَةٍ إلى هذه الرُّزمةِ المُمَنْهَجَةِ من الوثائق، والَّتي تنشرُ بشكلٍ دعائي بين يدي ذكرى المناسبة في عامها الخمسين ؟!.
بتقديري المتواضع، فإنَّ ما تضمنته تلك الوثائق وفي أغلبه الأعم لم يكن في حقيقة الأمر سوى مجموعةٍ من التصريحات الصحفيَّة العلنيَّة التي أعقبت الحرب والَّتي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون الذين أسهموا في صناعة أحداثها آنذاك.. الأمر الأكثر أهميَّة من ذلك هو ما تضمنته الوثائق الإسرائيليَّة التي ضَمَّتها جملة من المؤلَّفات التي كتبها أولئك القادة الإسرائيليون، إنْ على صعيد كتب المذكرات، أو على صعيدِ ما تمَّ تقديمه من شهادات وتفسير للوقائع بحسبِ من كُتِبَ في هذا المضمار من قِبَلِ القادةِ العسكريين والسياسيين وحتَّى الباحثينَ والصَّحفيين المُتَخَصِّصين والمعلِّقين العسكريين – المرتبطين بالمؤسسة العسكريَّة - حول دوافع الحرب ومجرياتها ونتائجها والنظريات والرُّؤى التي صيغت نتيجةً للواقع الجديد الذي فرضته نتائج تلك الحرب جيوسياسيَّاً وإجرائيَّاً وواقعيَّاً بالإجمال.
لن يرتقي ما جاءَ في تلك الوثائق من معطياتٍ ومعلومات إلى مستوى ما قدْ تمَّ تقديمه للقارىءِ العربي – بمجهودٍ مُمَيَّزٍ وجاد وهادِفٍ - من تراجِمَ لكثيرٍ مِمَّا نُشِرَ في إسرائيل عبر سنواتٍ طويلةٍ من قبَلِ مجموعَةٍ من الباحثين ودورِ النَّشْرِ كدارِ الجليل، والمركز الفلسطيني للدراساتِ الإسرائيليَّة – مدار، ولمؤسسةِ بابِ الواد للإعلامِ والصَّحافة، ولمجموعَةٍ من الباحثين والمُترجمين البارزين كـ " كأسرة دار الجليل " و " كأسْرَةِ مركز مدار " وكـ "عليَّان الهندي، وأنطوان شَلْحَتْ، وسعيد عيَّاشْ" على سبيلِ المثالِ لا الحصر، وغيرهم الكثير مِمَّن أسهموا في مجهودِ البحث والتَّرجمة والتَّحليل. وقبل كلِّ ذلك ما كانَ يطِّلِعُ به مركز الدِّراسات الفلسطينيَّة في بيروت من بحثٍ وترجَمَةٍ وتحليل للشأنِ الإسرائيلي. ولكنْ ثمَّة سؤالٌ مهم في هذه المناسبة وهو:
ماذا كانَ مقدار تأثير كل تلك البحوث والتراجم والوثائق المُتاحة للقارىء العربي والفلسطيني بفعلِ تلك الجهود، وماذا كان لها من أثَرٍ لدى النُّخبة والطَّبقة السِّياسيَّة الفلسطينيَّة ولدى صانع القرار الفلسطيني ؟!.. والإجابة عن هذا السُّؤال هي بِرَسْمِ ما نراهُ من ارتجاليَّةٍ في تخطيطِ السِّياساتِ، وغيابٍ شبه تامٍّ عن الوعي الحقيقي والاعترافِ بالواقع الَّذي فرضَتْهُ وتفرِضْهُ الوقائع المتواترة ومفاعيل سياسة القوَّة منذ عام 67 وحتَّى اللَّحظة !!.
لن ترتقي تلك الوثائق – المُفرَجُ عنها بين يَدَيِ المناسَبة - من حيث الأهميَّة ومن حيث الشَّرح المُسَهب لخلفيات ومجريات ونتائج حرب عام 67 – وبتقديري – لمستوى ما كتبه إسحق رابين – رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك – في الكتاب الذي حمل عنوان " مذكَّرات إسحق رابين " والصَّادر عام 1992 ؛ فقد تضمن ذلك الكتاب جملةً من أدق تفاصيل النِّقاشات التي جرت في أوساط الحكومة وفي غرفة هيئة الأركان في حينه.
ولن ترتقي تلك الوثائق إلى مستوى ما تضمَّنه كتاب " شلومو غازيت " رئيس شعبة الدِّراسات في هيئة الاستخبارات العسكريَّة بين عامي 65 و 67 والَّذي اختيرَ فيما بعد كأوَّلِ مُنَسِّقٍ لشؤونِ أعمال الحكومة في المناطق، وهو منصِبٌ مازال قائماً حتَّى الآنْ برغم وجود السُّلطة الفلسطينيَّة، وقد شَغِلَ غازيت هذا المنصب - الذي أوكله إليه " موشيه ديَّان " الَّذي كان وزيراً للدفاع إبَّان حرب عام 67 - لمدَّةٍ تزيدُ عن خمسة عشر عاماً، وقد كان كتابه تحت عنوان " الطُّعم في المصيدة.. السياسة الإسرائيليَّة في الضِّفة الغربيَّة وقطاع غزَّة من 1967 حتَّى 1997- والصَّادر عام 2000" وقد تضمَّن ذلك الكتاب الكثير من المعلومات والتفاصيل وشرح للوقائع المتَّصلة بخلفيَّات ومجريات ونتائج حرب حزيران، إضافةً إلى شرحه المُسْهَب للتصورات والرُّؤى والتقديرات التي كان قدَّمها ومن خلال موقعه إلى جانب الفريق العامل معه في شعبة الدِّراسات في هيئة الاستخبارات العسكريَّة في آذار عام 67 – أيْ قبل اندلاع الحرب بثلاثة أشهر – لطبيعة الحرب وسرعة وسهولة تحقيق الحسم فيها ولطبيعة النتائج التي ستتمخَّضُ عنها خاصَّةً فيما يتَّصِلُ بالواقع الجديد الذي سينْشأ جرَّاءَ احتلال إسرائيل لكلٍّ من الضِّفة الغربيَّة وغزَّة وهضبة الجولان وسيناء، وتحديداً ما يتعلَّق بأمرِ إدارة شؤون السُّكَّان العرب الذين سيخضعون للاحتلال، بما في ذلك معالجة أمر أوضاعهم المعيشيَّة وتطلُّعاتِهم السِّياسيَّة ومستقبل مصيرهم في ظلِّ احتلالٍ سوف لن يعترِفَ بواقع احتلاله للأرض، فيما سيعترِفُ بضرورة معالجة تطلُّعات السُّكَّان الخاضعين للاحتلال وفق صِيَغٍ تُراعي وتُعَزِّزُ مسألة ولاءَاتِهم السِّياسيَّة الَّتي كانت مُبَعْثَرة بين الحكم الأردني السَّابق في الضفة الغربيَّة والحكم المصري السَّابق في غزَّة وسيناء والحكم السُّوري السَّابق في هضبة الجولان، وبإزاءِ ذلك الولاء لمنَظَّمة التحرير الفلسطينيَّة الَّتي كانت قد تشكَّلت حديثاً في ذلك الوقت، وذلك فيما يخصُّ الفلسطينيين في الضِّفة الغربيَّة وغزَّة.
في هذا المناخ – وكما يشرح غازيت - ومع توالي سنوات السَّيطرة الإسرائيليَّة الأولى على كلِّ تلك المناطق كانت التَّصوُّراتُ والخطط المنهجيَّة الإسرائيليَّة تتبلوَرُ مُبَكِّراً حولَ صِيَغِ الحل المقتَرَحة، والتي مثَّلت ومع مرور الوقت القاعدة والإطار الأساسي الذي اقترحته إسرائيل وتمسَّكت به لدى انطلاق اتِّصالاتِها ومباحثاتِها السِّريَّة مع منظَّمة التَّحرير في آذار عام 93؛ والَّتي تمخَّضَت عن توقيع اتفاقيَّة إعلان المبادىء في حديقة البيت الأبيض في 12أيلول عام 1993، وهو ما عُرِفَ باتِّفاقِ أوسلو، ومن ثمَّ اتِّفاقِ القاهرة الموقَّع عام 1994 والَّذي تمّ بمُقْتَضاه إعادة انتشار القوَّات الإسرائيليَّة في الضِّفة الغربيَّة وقطاعِ غزَّة.
نجِدُ تأكيداً آخرَ لما قد جاء في كتاب شلومو غازيت، فيما يتعلَّقُ بصيغ الخطط والتَّصوُّرات الإسرائيليَّة المنهجيَّةِ النَّاجزة قُبيَلَ وبعد حرب عام 67 في واحدٍ من المؤلَّفات والمنشورات الإسرائيليَّة الهامَّة، وهو كتابٌ حملَ عنوان: " أسيادُ البلاد.. المستوطنونَ ودولةُ إسرائيل 1967- 2004" الصَّادر عام 2005 من تأليفِ " عقيبا إلدار و عديت زرطال " وخاصَّةً في ملاحِقِ الكتاب الَّذي يقعُ في 570 صفحة؛ إذْ يَشَرُحُ الكتاب والملاحق مناخ وملابسات حرب عام 67 ونتائج تلك الحرب إضافةً إلى سياسات الحكومات الإسرائيليَّة المتعاقبة تجاه الأراضي المحتلَّة والاستيطان، ونجدُ في الملاحق وتحت بند بعنوان " سرِّي للغاية – الموضوع: التوصُّل إلى تسويَةٍ للقضيَّةِ الفلسطينيَّة – التَّاريخ 14/06/1967 " وهي ثيقةً كان قد قدَّمها مجموعةً من ضبَّاط هيئة الأركان الإسرائيليَّة وعلى رأسهم الجنرال " دافيد كيمحي " لوزارة الدِّفاع بتاريخ14 حزيران 67- أيْ بُعَيدَ انتهاءِ الحرب بأيَّامٍ قليلة !!.
وقد تضمَّنت تلك الوثيقة مُقتَرَحاتٍ وترتيباتٍ تفصيليَّة – سنُشيرُ إلى بعضِها هنا - إذْ تتناولُ التَّمهيدَ لإقامَةِ دولَةٍ فلسطينيَّة ترتبطُ بدولة إسرائيل باتِّفاقاتٍ أمنيَّةٍ واقتصاديَّةٍ وسياحيَّةٍ وضرائبيَّةٍ وجمركيَّةٍ، واتِّفاقٍ للدِّفاعِ يضمن أمن إسرائيل بالطُّرق التاليَة – وكما جاء في الوثيقة:
لا تملك الدَّولة الفلسطينيَّة جيشاً، وتكون لها قوَّات شُرَطَيَّة فقط، وتُحافظُ قوَّات الجيش الإسرائيلي على طولِ الحدود في غور الأردن، ويُقامُ تعاوُنٌ أمنيٌّ مشترك بين أجهزة الأمن لدى الجانبين، وتتضمَّن تلك الوثيقة تعديلات في حدود الهدنة عام 49 بحيث يتم تبادل مناطق تُضَمُّ بشكلٍ تبادُلِيٍّ بين الدَّولَتَيْن، بما في ذلك بحث إمكانيَّة توطين الفلسطينيين في منطقة العريش وسيناء..( لمطالعة تفاصيل هذه الوثيقة كاملةً يمكن العودة إلى كتاب أسياد البلاد صفحة - 530 - 533).
وعلى هامشِ مناقشة تلك الترتيبات في هيئة الأركان وجهاز الاستخبارات العسكريَّة فيما بعد وفي صيغَةٍ قدِّمت بعنوان: "خطَّة جلد النِّمر المرَقَّط " قدَّمها الجنرال إسحق مردخاي؛ وتمهيداً لصياغَةِ حلولٍ مُقْتَرَحة؛ يُشارُ إلى إمكانيَّةِ إعادة انتشار القوَّات الإسرائيليَّة في الضِّفة الغربيَّة وغزَّة ضمن مناطق سيطرة مصنَّفة بـ (أ، ب ، ج ) بحيث يكون بعض تلك المناطق مناطق حكم ذاتي للسكَّان، فيما تكون مناطق أخرى كمناطق سيطرة عسكريَّة وأمنيَّة إسرائيليَّة مطلقة، بما يتضمن وجود القواعد العسكريَّة فيها، بعيداً عن الاحتكاك اليومي المباشر مع المواطنين الفلسطينيين؛
وهي عَيْنُ وجهة النَّظر الَّتي تبنَّاها وحاول تطبيقها كلٌّ من "موشيه ديَّان" و"إيغال ألون – في استيطان غور الأردن والتَّمسُّك النِّهائي به ضمن أيِّ حلٍّ سياسيٍّ مُقْتَرَح" وفيما عُرِفَ بصيغَةِ الحُكْمُ غير المرئي للسُّكَّان – بحسَبِ ديَّان- وذلك من خلال تخفيف احتكاك الجيش بالمواطنين بحيث يبقى الجيش في معسكراته ويتم إدارة شؤون السُّكان من خلالِ الحاكميَّات العسكريَّة وبقوَّةٍ بوليسيَّة من الشُّرطةِ وحرس الحدود تحت إمِرَةِ منسق شؤون المناطق المرتبط بوزارة الدِّفاع ومقرُّه في " بيت إيل " بالقرب من رام الله، وكذلك من خلال الإبقاءِ على سياسة الجسور المفتوحة أمام السُّكَّان مع كلٍّ من الأردن ومصر. وذلك قبل أنْ تُخلَّ سياسات حكومة اللِّيكود التي قدِمتْ إلى الحكم مع نهاية عام 1976 بالأسس المستقرِّة لتلك السِّياسة مِمَّا أدَّى فيما بعد ذلك لبدايَةِ هبَّاتٍ شعبيَّةٍ فلسطينيَّةٍ تُوِّجَتْ باندلاعِ انتفاضَةِ نهاية عام 1987 وذلك عينُ ما يشرحه بإسهابٍ كلٌّ من " شلومو غازيت " وكذلك " عقيبا إلدار و عديت زرطال " و " أوري بن اليعازر – في كتابه حروب إسرائيل الجديدة " فيما قد كتبوا وقدَّموا من وثائق قبل سنواتٍ طويلة من حلول الذِّكرى الخمسين لحرب عام 67.
بالإجمال.. تؤكِّدُ هذه الأمثلَةَ التي أشرنا إليها باقتضابٍ – إضافةً إلى الكثيرِ غيرها – أنَّ مجريات ووقائع ونتائج حربَ عام 67 وما جرى حولها من نقاشاتٍ، عوضاً عن نوايا وسياساتِ إسرائيلْ لمْ تَكُنْ يوماً طيَّ الكتمان، وأنَّ ما نُشِرَ من رَزْمَةِ الوثائق التي وُصِفَتْ بالوثائقِ السِّريَّةِ المُفْرَجِ عنها بمناسَبَةِ حلول الذِّكرى الخمسين للحرب لمْ تكنْ سوى - بروبوغاندا – دعائيَّةٍ احتفاليَّةٍ مُفَخَّمَةٍ تستَهْدِفُ مزيداً من محاوَلَةِ كيِّ الوعيِ الفلسطينيِّ؛ باتِّجاهِ إشاعَةِ مزيداً من عواملِ الإحباطِ وتبريرِ وتسويغِ القبولِ بصيغِ الخطط الإسرائيليَّة بخطوطها العامَّة حيناً والتَّفصيليَّة أحياناً والموضوعُ معظمها في الأدراجِ منذ آذار عام 1967 على الأقل، أيْ قبلَ اندلاعِ الحرب بنحوِ ثلاثةِ أشهر على أقلِّ تقدير !!.