في واقعنا السياسي، يكثر الطرح السياسي الذي يتميز بالشَطَحِ والقفز في الهواء لغايات ركوب أي موجة شعبوية دون امتلاك أي طرح سياسي حقيقي. وأصحاب مذهب الشَطَحِ هذا يتهمون خصومهم بالخنوع لغايات كسب الجولات الحوارية ولتفادي الخوض في نقاش سياسي حقيقي حول الظروف الموضوعية البائسة التي تواجهها قضيتنا والفرص الضئيلة المتاحة للخروج من عنق الزجاجة الخطير الذي ينذر بجولة جديدة من الدم والآلام والتراجع السياسي.
الشَطَحْ هو أن يصرح قيادي أو مسؤول بضرورة إنهاء التعامل مع الإدارة الأمريكية والبحث عن محاور أخرى بينما يجتمع رؤساء سبعةٍ وخمسين دولةٍ عربية وإسلامية مع الرئيس الأمريكي ترامبويقدمون كل علامات الطاعة والتعاون وتحديد أولويات تستثني فلسطين من النقاش. الشَطَحُ هو أن يوهم ذلك المسؤول الرأي العام بأن العالم الذي نعيش فيه اليوم جاهز للتخلي عن الهيمنة الأمريكية رغم كل ما يبذله كل قادة العالم الأول والثالث لاستمالة الولايات المتحدة والتقليل من الضرر الناتج عن سياسات رئيسها الحالي المتهورة في كثير من الملفات الأمنية وغيرها مثل حماية البيئة.
وفي تفسير هذه الشَطحَةِ بالتحديد، فالمسؤول الذي يَشطَحُ بهذه الطريقة لا يمكن إلا أن يدرك أن ما يقوله غير قابل للتنفيذ نظراً للمعطيات الموضوعية الراهنة لكنه يهرب من مسؤولية طرح البدائل وخارطة طريق لتنفيذها بالإيحاء أن التعاطي مع الولايات المتحدة الأمريكية غير ضروري وأن العالم يزدحم بمحاور موازية جاهزة لاحتضان القضية الفلسطينية. الطرح الشاطحُ هذا يتجاهل أن الأشقاء قبل الغرباء اتفقوا على إعادة ترتيب أولوياتهم وتحالفاتهم بطريقة تضيق الخناق على قضيتنا الوطنية.
وبهذا، يصبح الرأي العام المَشطوحُ فيه مشحوناً بغضب واستياءٍ حول خيارات هي في الحقيقة غير موجودة ويبني مواقفه على أساس هذا الغضب الذي لو توجه نحو الاحتلال وحلفائه لكان أكثر نفعاً. في النهاية، تَحرِم هذه الشَطَحاتُ المجتمع من نقاش موضوعي مبني على الحقائق وتُفقد نقاشه حول المعطيات من أي أرضية لإيجاد الحلول.
والشَطَحُ يتجلى أيضاً في إطلالة القيادي في حركة حماس صلاح البردويل وتحدثِه عن واقع خيالي من الحياة الرغيدة والمزدهرة في غزة وإعلانه أن الشعب الفلسطيني في القطاع المحاصر جاهز لعقد ثانٍ من الحصار والمواجهات العسكرية المدمرة. والشَطَحُ أيضاً أن تلاحق حماس من يجرؤ على قول الحقيقة عن واقع غزة المرير واتهامه بالكذب والتلفيق.
أما شَطحَة الشطحات فتتمثل في نفي حماس للأنباء القادمة من قطر، الراعي المالي والسياسي للانقسام منذ ما قبل نشأته، والذي يفيد بقرار قطر طرد قياديين من حركة حماس وحركتها الأم الإخوان المسلمين. وفاءً لقطر وتمويلها السخي للانقسام واستخدام عضلاتها الإعلامية المختلفة لترويجه وتبريره خلال العقد الماضي، تعلن حماس أن ما يجري من نفي وطرد لقياداتها ما هو إلا ترتيبات جديدة ذاتية!
الإشكالية في أم الشَطَحات هذه أنها تأتي بالتوازي مع تغييراتٍ إقليمية كبيرة من المفترض أن تجبر الحركة على إعادة ترتيب أولوياتها وحساباتها والاعتراف بأن لا ملاذ لها من الطوفان الدموي المتربص بمنطقتنا إلا إنهاء الانقسام والعودة للحاضنة الوحيدة الكفيلة بحمايتها وتجنيب قطاع غزة الرهينة الويلات التي أنذر بها خطاب ترامب في الرياض. لكن المفارقة في هذه الشطحة أن الشاطحَ يدرك بأن الجمهور المشطوحَ فيه يقتصر على من يوالي التنظيم دون سؤال وأن الشارع الفلسطيني لا يشتري بضاعة بات فسادها وخطورتها بهذا الوضوح الجلي. أما الخطورة، فتكمن في أن ثمن هذا الاستعراض الشاطحَ، وخاصة في غزة، ربما يكون من دم ولحم أبنائها المنهكين من الحصار والانقسام والشَطَحِ المستمر منذ عقد طويل وأليم من الزمان.
التضليل والمناورة أساليب متبعة أحياناً في السياسة لكنها أساليب غير نزيهة وتفضح إفلاس مطلقها وعدم قدرته على الدفاع عن موقفه بالحجة. الشَطَحُ في واقعنا اليوم هو قمارٌ بالأرواح ومستقبل القضية الفلسطينية ومكانتها. ما يدعوا للقلق والحزن أن الشَطَحَهذا لا يلقى ما يردعه؛ فإما أن يكون الرد قفزاً في الهواء وهروباً إلى الأمام أو أن يكون انفعالياً رداحاً ينزلق لمربع الشاطحِ وما يريد من انعدام للنقاش المعمق. هذا الواقع مقلقٌ بقدرِ ما هو هذا الشَطَحُ مثيرٌ للغضب والاشمئزاز.
* في معجم المعاني: شطح يشطح فهو شاطح والمفعول مشطوح فيه والجمع شطحات.