جيلنا الذي عمره بين الستين والثمانين، عاش ثلاثة أيام ذاق فيها حلاوة النصر في اليوم الأول، وملوحة الشك في اليوم الثاني، ومرارة الهزيمة في اليوم الثالث.
صباح الخامس من حزيران عام 1967، اشتعلت في الوطن العربي الكبير، موجة فرح ألّفتها تسعة عشر سنة من شعور مرير متراكم بالهزيمة والظلم، أقيمت حلقات الدبكة في الشوارع والساحات والميادين، وأعد اللاجئون حقائبهم للعودة إلى المدن والقرى التي أرغموا على تركها قبل تسعة عشر سنة، وذاق المنكوبون حلاوة الأمل بالخلاص.
كان ذلك ليوم واحد فقط، بدأ مع أول بلاغ أعلنه صوت العرب بإسقاط ثماني طائرات إسرائيلية، تلاه إسقاط المئات بحيث لم يبقَ في إسرائيل طائرة واحدة على قيد الحياة.
الشعور بالفرح وتحقق الأمنيات، سبقه إعداد متقن لتضليل جمعي لم يفلت من أذاه أحد، كان الأثير هو البطل، وكان الجمهور الذي يعيش على أرض تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، مجرد أذن تصب فيها وعود النصر الأكيد، كانت الحرب تعني النصر بلا نقاش، ولو استرجعنا من الذاكرة أغنيات ما قبل الحرب، والبرامج الإذاعية التي تدفقت، وهيأت الناس لانتظار مسلمة قريبة الوقوع، هي إبادة إسرائيل، لوجدنا أن العقل الذي يميز بين الأشياء كان قد غُيّب تماماً وأنّ المقومات المبدئية لكسب أي حرب لم تكن متوفرة على أرض الواقع.
كانت جيوش العرب منهمكة إمّا في حروب لتثبيت انقلاب وقع، وإما في التحضير لانقلابات تقول البلاغات الأولية أنها من أجل فلسطين، وكلما كان ينجح انقلاب في إزاحة سلطة، كان الأثير ينبئنا بأن الفرج صار قريباً وأنّ النصر مجرد انتظار ساعة. أمة بكاملها نوّمت بفعل الأثير وألغي عقلها تحت ضغط متطلبات الحكم والتحكم.
في اليوم الأول ظهرت هواية شعبية هي عد الطائرات التي أسقطها العرب، وانتظار اللحظة التي يعلن فيها زعيم الأمة من تل أبيب تحرير فلسطين.
نام الناس ليلة فرحة مطمئنة، واستيقظوا على أخبار تفيد بأن الحرب ما تزال مستمرة وأنّ الجيوش العربية تواصل تقدمها وراء فلول الجيوش الإسرائيلية المنهزمة.
هنا بدأ الشك، الأثير يقول لم يبقَ عند إسرائيل ما يوفر صمود يوم واحد أو ساعة، فما الذي أخّر بلاغ النصر حتى اللحظة؟
أمّة بكاملها انتقلت في سويعات قليلة من اليقين إلى الشك، كان الشرف والكرامة والوطنية، تمنع استراق السمع إلى إذاعة إسرائيل إلا أن الفضول لمعرفة ماذا يقول الطرف الآخر المهزوم، دفع كثيرين إلى خرق المحرمات والتنصت على راديو العدو، راعهم ما سمعوا فإذا بالطائرات العربية أبيدت وهي على أرض مطاراتها. لم يرغب من سمعوا بهذا تصديق ما سمعوا، فما زال الأثير العربي يبث أخبار النصر الأكيد وأغنياته المجيدة.
صنّاع الأثير تعودوا على أن تصدق الدهماء ما يقولون، حتى لو كان غير منطقي، فتوغلوا في رفع نسبة الطائرات الإسرائيلية التي اسقطت، وافتعلوا معارك بالسلاح الابيض مع فلول الأعداء على الجبهات الثلاث، إلا أن الشك ظل ينمو، إحساس الناس بالكارثة صار أقوى من إحساسهم المزيف بالنصر، هل تصدقون أن أمة تعد بالملايين تنتقل في أقل من أربع وعشرين ساعة من شعور بنصر أكيد إلى شك عميق بحدوثه، مع اقتراب متسارع نحو يقين معاكس، "الهزيمة".
في اليوم الثالث بدأت الأمور تنجلي، هبط منسوب الصخب في أثير العرب، تبدلت هواية عد الطائرات التي تسقطها الإذاعات العربية تباعاً بهواية أخرى، ذلك بعد أن أعلن المنتصرون بالأمس أنهم اضطروا إلى الانسحاب إلى خط الدفاع الثاني، اشتعل جدل شعبي حول عمق هذا الخط، أمتار قليلة إلى الوراء، أم كيلو مترات فادحة يقف فيها الجيش الذي هزم بالأمس على أبواب ثلاث عواصم عربية بعد الإقرار بسقوط العاصمة الروحية للجميع "القدس".
وبعد التيقن من المساحة التي احتلها الإسرائيليون، بدأت مبارزة بالوصف، هزيمة أم نكسة؟ رواد الأثير فرضوا تعريفهم لما حدث... نكسة ولولا قليل من الحياء لأضافوا وراءها "عابرة".
ومنذ تلك الأيام الثلاثة وحتى إشعار آخر قد يعد بعشرات السنين، لم يكن حزيران نكسة ولا هزيمة، وإنما جذر نمت عليه غابة من الهزائم، وكل هزيمة تلت تلك النكسة، كانت تغطى بالشعر والأغنيات وهكذا إلى ما لا نهاية.