إعداد: الدكتور عصام عابدين
أصدر الرئيس محمود عباس قراراً بقانون بتاريخ 2014/5/11 بتعديل قانون العقوبات رقم (16) لعام 1960 النافذ في الضفة الغربية، وقد استهدف هذا القرار بقانون الجديد تعديل نص قانوني واحد في قانون العقوبات المذكور، خاص بالأعذار القانونية المخففة للعقاب في الجرائم، وجاء على النحو التالي: «يعدل نص المادة (98) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 وتعديلاته ليصبح على النحو الآتي: يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بسورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه، ولا يستفيد فاعل الجريمة من هذا العذر المخفف إذا وقع الفعل على أنثى بدواعي الشرف».
وبموجب هذا التعديل، فقد جرى إضافة عبارة جديدة في نهاية النص الأصلي لا يستفيد بمقتضاها فاعل الجريمة من العذر القانوني المخفف إذا وقعت على أنثى «بدواعي الشرف». وفيما يبدو أن هذا التعديل جاء «كردة فعل» على المستوى التشريعي في مواجهة تنامي ظاهرة قتل النساء وبخاصة خلال هذا العام، والتي ارتفعت بشكل غير مسبوق قياساً على الأعوام الماضية، وفي ظل مطالبات مجتمعية عديدة تدعو للتصدي لتلك الجرائم على كافة المستويات ولا سيما المستوى التشريعي.
وبذلك فنحن أمام تعديل تشريعي ثان على ذات الموضوع، إذ سبق وأن صدر قرار بقانون بتاريخ 2011/5/15 بتعديل قانون العقوبات لعام 1960 النافذ في الضفة الغربية بإلغاء المادة (340) التي كانت تمنح أعذاراً مُعفية أو مخففة من العقاب في حال فاجأ الزوج زوجته أو إحدى محارمه في حالة تلبس بالزنا أو في فراش غير مشروع وأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو قتل أو إيذاء أي منهما، إضافة إلى تعديل المادة (18) من قانون العقوبات لعام 1936 النافذ في قطاع غزة الخاصة «بالدفاع الشرعي» بحيث استثنى جرائم قتل النساء على خلفية «شرف العائلة» من النص المذكور.
وهذا يعني، من حيث المبدأ، وقبل الخوض في التفاصيل، بأن التعديل الأول قد فشل في تحقيق الغاية التي أُقر من أجلها، وعجز عن تحقيق الردع، إنْ كان هو الوصفة السحرية الكافية في مواجهة تنامي ظاهرة قتل النساء، ما استدعى تعديلاً تشريعياً ثانياً لذات الغرض، كما ويعني على أقل تقدير أن التعديل الجديد قد استخلص الدروس وعالج الخلل الذي أدى إلى فشل التعديل الأول. فهل هذا ما حصل فعلاً أم أننا سندخل في سلسلة تعديلات مستمرة على قوانين العقوبات طالما استمرت جرائم قتل أو إيذاء النساء؟ وهل هناك رؤية واضحة للمسار التشريعي العقابي بمعنى ماذا نعدل ولماذا؟
غياب رؤية واضحة وسياسة جنائية حكيمة في مواجهة الظاهرة
القاسم المشترك بين القرارين بقانون أنهما قد صدرا في ظل غياب رؤية واضحة المعالم والأهداف والأولويات، مستندة إلى دراسات تحليلية تساعد على فهم أسباب هذا السلوك الإجرامي وعوامل انتشاره وتناميه المتسارع إلى أن أصبح ظاهرة واضحة للعيان في مجتمعنا لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو التقليل من حجمها، وغياب طرق مدروسة للمعالجة على المستوى التشريعي والسياساتي، وهذا يحتاج إلى حوار مجتمعي جدي يشارك فيه المستوى الرسمي وغير الرسمي من منظمات مجتمع مدني وأهلي لتشخيص تلك الظاهرة والخروج بحلول مدروسة ومؤثرة في شأن بالغ الأهمية يتعلق بحقوق المرأة ومشاركتها ورفع الظلم والتمييز الواقع عليها سواء على المستوى التشريعي أو على مستوى الموروث الثقافي والاجتماعي ونظرته الدونية للمرأة ودورها في المجتمع.
إذ كيف يمكن السير باتجاه معالجة ظاهرة دون فهمها وفهم أسبابها وعوامل انتشارها وتحديد كيفية وأدوات التدخل على المستوى التشريعي وغير التشريعي في معالجتها؟! وهل تكفي المعالجة التشريعية العقابية في مواجهة تلك الظاهرة وتناميها؟! وماذا عن التشريعات الأخرى التي تنطوي على تمييز وإجحاف وظلم واضح بحق المرأة وهل هنالك خطة واضحة لتنقيتها من تلك الشوائب؟!
وماذا عن مسألة التربية وخلق الوعي المجتمعي بثقافة وقيم حقوق الإنسان؟! وما الدور الذي تلعبه المناهج التعليمية في رياض الأطفال والمدارس والجامعات على هذا الصعيد؟! وأين موقع ثقافة وقيم حقوق الإنسان وبخاصة فيما يتعلق بقيم الحرية والمساواة وعدم التمييز واحترام الآخر واحترام الكرامة الإنسانية من المناهج التعليمية والتربوية وما حجم الجهود المبذولة على هذا الصعيد؟!
مهم أن تجري مراجعة للتشريعات العقابية لتحقيق الردع في مواجهة ثقافة التمييز ضد المرأة وحمايتها من كافة مظاهر وأشكال العنف، ومن بينها جرائم القتل والإيذاء التي تستهدف المرأة، ولكن هذا يحتاج إلى معالجة واضحة المعالم ومهنية على المستوى التشريعي العقابي، وعلى المستوى التشريعي عموماً، وأن تكون تلك المعالجة ضمن رؤية شاملة تطال التشريعات والسياسات العامة المتبعة، وهذه مسؤولية الجميع، وتحتاج إلى حوار مجتمعي جدي يشارك فيه المستوى الرسمي وغير الرسمي لتشخيص مواطن الخلل ومداه وأسباب انتشار الظواهر المجتمعية الشاذة، والمشاركة في إيجاد الحلول الفعالة والعملية في مواجهتها، وتحديد الأدوار والمسؤوليات وتقييم الأداء باستمرار، بعيداً عن التخبط والعشوائية التي لم تتمكن لغاية الآن من تحقيق معالجة ولو جزئية لبعض النصوص العقابية!
ماذا يعني توقيع دولة فلسطين على اتفاقية سيداو؟
إن انضمام دولة فلسطينية إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وبدون تحفظات، يعني بوضوح أنه يقع لزاماً عليها إنفاذ أحكام هذه الإتفاقية في الأرض الفلسطينية، بأن تنتهج سياسة واضحة المعالم تستهدف القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وتكفل تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، واتخاذ كافة التدابير التشريعية وغير التشريعية لتمكين المرأة وحمايتها وحظر أي تمييز ضدها وفرض عقوبات جزائية عليه، وضمان تمتع المرأة بكافة حقوقها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على قدم المساواة مع الرجل، واتخاذ كافة التدابير التشريعية وغير التشريعية لتغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية السائدة، والقضاء على الأدوار النمطية التي تخل أو تنتقص من مبدأ المشاركة والمساواة التامة بين الرجل والمرأة في مختلف ميادين الحياة.
الترقيع التشريعي الأول في مواجهة ظاهرة قتل النساء
لا يبدو أن هناك رؤية واضحة وسياسة جنائية حكيمة على الأقل على المستوى التشريعي لتحقيق الردع في مواجهة تنامي ظاهرة جرائم قتل النساء في مجتمعنا الفلسطيني، فالمعالجة التشريعية العقابية لا تزال ترقيعية، تقوم على ردات الفعل ليس إلاّ، في محاولات يائسة لاحتواء الظاهرة، وامتصاص الردود المجتمعية الغاضبة من استمرارها وتناميها والإخفاق بطبيعة الحال في معالجتها، وكالعادة فإن التدخل التشريعي ما زال يجري بعيداً عن أي حوار مجتمعي تشارك فيه مؤسسات المجتمع المدني والأهلي وبخاصة المؤسسات النسوية والحقوقية للوصول لحلول ناجعة وفعالة.
وإذا كان المستوى الرسمي يتحمل جزءاً هاماً من المسؤولية على هذا الصعيد في ظل انقطاع لغة المشاركة والحوار، فإن المستوى غير الرسمي يتحمل نصيباً لا يقل أهمية من المسؤولية في ظل الافتقار إلى رؤية واضحة وعمل مشترك ومنظم وضغط متواصل لإنصاف المرأة وتمكينها وحمايتها وحظر وتجريم كافة أشكال التمييز ضدها بعقوبات رادعة وضمان تطبيقها على الأرض.
ومن إفرازات هذا الخلل أن القرار بقانون الأول الذي صدر بتاريخ 2011/5/15 بتعديل قانون العقوبات في الضفة الغربية وقطاع غزة لم يكن له أي مفعول على الأرض في ردع تلك الجرائم، ليس فقط لأنه صدر دون رؤية واضحة وفهم لطبيعة الظاهرة وأسبابها ومسبباتها وكيفية مواجهتها تشريعياً بما يحقق الردع، وإنما لأن التدخل التشريعي لم يكن مؤثراً أيضاً كونه ينطوي على قدر كبير من التخبط والافتقار إلى المهنية في الأداء حتى على مستوى المعالجة الترقيعية الجزئية.
إذ أن الترقيع التشريعي الأول قد استهدف قانون العقوبات الأردني لعام 1960 وتحديداً نص المادة (340) منه الخاص بمنح الأعذار القانونية المعفية أو المخففة من العقاب في القتل أو الإيذاء في حالات التلبس بالزنا أو الفراش غير المشروع، وهذا التعديل لا رصيد له في التطبيقات القضائية في المحاكم، والتي تلجأ عادة إلى نصوص قانونية أخرى لتخفيف العقوبات في حالات قتل أو إيذاء النساء، ولم يجر تعديلها في هذا القرار بقانون، كما واستهدف هذا التعديل نص المادة (18) من قانون العقوبات لعام 1936 النافذ في قطاع غزة والخاص «بالدفاع الشرعي» وهو حق يحميه القانون في مواجهة خطر اعتداء المعتدي، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بجرائم قتل النساء على خلفية «شرف العائلة» التي جاء بها التعديل واستثناها من النص ما أدى إلى تشويهه ليس إلاّ!
وبالنتيجة، فإن القرار بقانون الأول الصادر في 2011/5/15 لم يكن له تأثير على الأرض كونه لم يستطع معالجة جزئية واحدة في التشريع العقابي تتعلق بمنح الأعذار القانونية المخففة والأسباب المخففة القضائية في جرائم قتل وإيذاء النساء، وبذلك يكون قد عجز عن حمايتهن وتحقيق الردع.
الترقيع التشريعي الثاني في مواجهة ظاهرة قتل النساء
قبل أن نبدأ بمناقشة الترقيع التشريعي الثاني المتمثل بالقرار بقانون الصادر بتاريخ 2014/5/11 بتعديل قانون العقوبات النافذ في الضفة الغربية وتقييم هذا التعديل، لا بد وأن نلحظ استمرار حالة «الارتباك والتخبط» التي تسيطر على التعديلات التشريعية في مسألة واحدة فقط لكنها خطيرة تتعلق بجرائم قتل أو إيذاء النساء، إذ نلاحظ هنا أن التعديل الأول الذي جرى بتاريخ 2011/5/15 استهدف قانون العقوبات لعام 1960 النافذ في الضفة الغربية وقانون العقوبات لعام 1936 النافذ في قطاع غزة، بينما استهدف التعديل الجديد الثاني قانون العقوبات النافذ في الضفة الغربية فقط.
علماً بأن التعديل السابق الذي جرى على قانون العقوبات في قطاع غزة يحتاج إلى مراجعة كما سبق وأوضحنا حيث أنه استهدف نصاً يتعلق بالدفاع الشرعي ولا علاقة له بجرائم قتل النساء، كما أنه قد أغفل تعديل الأمر رقم (102) المعدِّل لقانون العقوبات النافذ في قطاع غزة، والذي كان من المفترض أن يستهدفه القرار بقانون الأول بالتعديل، وذلك لأنه يمنح «أسباباً مخففة قضائية» تنطبق على جميع الجرائم أو أغلبها، ومن بينها حالات قتل النساء، وهي التي يلجأ إليها القضاء بسلطته التقديرية لمنح أسباب مخففة في تلك الحالات، وبالتالي فإن التعديل الجديد لم يعالج الخلل والتشوه الذي تسبب به التعديل القديم فيما يخص الدفاع الشرعي ولم يعالج أيضاً النص الذي جرى إغفاله بل وتجاهل القانون العقابي النافذ في غزة كلياً واقتصر التعديل الجديد على القانون العقابي في الضفة العربية فقط محدثا حالة من الفوضى والارتباك التشريعي ليس لها أي معنى أو مبرر على الإطلاق!
كما أن المعالجة التشريعية التي جاء بها القرار بقانون الجديد 2014 والتي استهدفت قانون العقوبات لعام 1960 النافذ في الضفة الغربية «منقوصة ومجتزأة» باستهدف نص واحد هو المادة (98) الخاصة بالأعذار القانونية المخففة، حيث أغفل تعديل نصوص المواد (99) و (100) من قانون العقوبات الخاصة بالأسباب المخففة القضائية التقديرية في الجنايات والجنح والتي يمكن أن يلجأ إليها القضاء في تخفيف العقاب على الجاني في حالات قتل النساء أو إيذائهن، عندما يكون هناك تنازل عن الحق الشخصي في تلك الجرائم بفعل الثقافة المجتمعية السائدة، أو حتى بدون هذا التنازل عن الحق الشخصي، إذ أن تلك الأسباب متروكة لتقدير قاضي الموضوع بحسب كل قضية وظروفها وملابساتها خاصة وأن قانون العقوبات النافذ لا يحدد طبيعة أو ماهية تلك الأسباب ولا يضع أية ضوابط على المحكمة في استخلاصها، مكتفياً بأنه يتوجب تعليلها تعليلاً وافياً.
وإذا كانت الأسباب المخففة القضائية الواردة في المواد (99) و (100) من قانون العقوبات لعام 1960 بشأن الجنايات والجنح، والتي لم يجر تعديلها في القرار بقانون الثاني، هي الأكثر استخداماً في التطبيقات القضائية، فهل هذا يعني وفقاً للنهج السائد في المعالجة التشريعية انتظار المزيد من جرائم القتل التي تستهدف النساء لإجراء ترقيع تشريعي ثالث على قانون العقوبات؟!
اجتهاد قضائي لتوضيح الصورة
ورد في حيثيات قرار محكمة الاستئناف المنعقدة في مدينة رام الله في الاستئناف الجزائي رقم (98/1063) و (98/1047) ما يلي: «... إن محكمة البداية قامت بتخفيض العقوبة المحكوم بها عملاً بأحكام المادة (2/99) من قانون العقوبات لسنة 1960 (التي أغفلها التعديل الجديد) مستندة في ذلك إلى القول بأنه قد ثبت لها من البيّنات المقدمة سوء سلوك المغدورة، وأن المستأنَف عليه قريب لها، وأن العادات والتقاليد في مجتمعنا تقضي بأن سلوك الفتاة السيء يُلحق الأذى بها وبعائلتها بغض النظر عن درجة القرابة. وحيث أن محكمة البداية لم تؤسس تخفيض العقوبة المحكوم بها على أن المستأنَف عليه يستفيد من العذر المخفف المنصوص عليه في المادة (98) من قانون العقوبات لعام 1960 أو العذر المحل المنصوص عليه في المادة (340) من ذات القانون، بل اعتبرت سوء سلوك المغدورة ودرجة قرابتها به والعادات والتقاليد التي تعتبر أن سلوك الفتاة السيء يُلحق الأذى بها وبعائلتها، مهما بلغت درجة القرابة، هي أسباب مخففة تقديرية، لتخفيض العقوبة... فإن قرار المحكمة والحالة هذه يكون موافقاً للقانون».
تعليقنا على قرار المحكمة
مع احترامنا لمحكمة الاستئناف، فإنه قد غاب عنها وهي تؤيد ما توصلت إليه محكمة البداية؛ والتي بدت وكأنها تتصفح قانون العقوبات بحثاً عن عذر مخفف من العقوبة كي تمنحة (للقاتل) وقد وجدت ضالتها في نهاية المطاف بالأسباب القضائية المخففة الواردة في المادة (99) من قانون العقوبات، وقد أغفلها القرار بقانون الجديد، والتذرع أيضاً بأن العادات والتقاليد في مجتمعنا تقضي بأن «سلوك الفتاة السيء» يُلحق الأذى بها (أي المغدورة) وبعائلتها؛ غاب عنها أن قانون العقوبات يوجب صراحة أن يكون القرار القضائي المانح للأسباب المخففة القضائية التقديرية في الجنايات مُعللاً تعليلاً وافياً.
وإذا كان مثل هذا التعليل، يعد كافياً للمحكمة، لتمنح القاتل سبباً قضائياً مخففاً للعقوبة، فإن هنالك من العادات والتقاليد في مجتمعنا ما يعتبر أن قيام الفتاة بتدخين السجائر سلوكاً سيئاً للفتاة ويمكن أن يُلحق الأذى بها وبعائلتها، فماذا لو قام أحدهم بقتل قريبته من الدرجة الرابعة على مثل هذا السلوك، هل يمكن للمحكمة أن تمنح القاتل سبباً مخففاً للعقوبة على جريمة القتل التي اقترفها؟!
إن تلك الاجتهادات القضائية من شأنها أن تُثير تساؤلات جدية حول مدى إيمان بعض السادة القضاة والعاملين بمؤسسات العدالة «بثقافة وقيم حقوق الإنسان» وفي مقدمتها الحق في المساواة وعدم التمييز واحترام كرامة المرأة وإنسانيتها وإنصافها، وأهمية التوعية والتثقيف والتدريب ورفع القدرات في المجال الحقوقي، وبخاصة للعاملين في مؤسسات العدالة، أملاً في تحقيق العدل والإنصاف.
مضمون الترقيع التشريعي الثاني لقانون العقوبات
يتمثل الترقيع التشريعي الثاني في القرار بقانون 2014 الذي صدر مؤخراً بتعديل نص المادة (98) قانون العقوبات لعام 1960 النافذ في الضفة الغربية، وقد استهدف هذا التعديل استثناء فاعل الجريمة من العذر القانوني المخفف إذا أقدم على ارتكاب الجريمة بسورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه وذلك في حال وقع الفعل (الجريمة) على أنثى بدواعي الشرف، بحسب نص التعديل التشريعي الذي جاء به القرار بقانون الجديد.
بداية لا بد من التوضيح بأن العذر القانوني المخفف للعقوبة الوارد في المادة (98) من قانون العقوبات هو عذر عام أي بمعنى أنه ينطبق على جميع الجرائم أو معظمها إذا ما توفرت شروط تطبيقه الواردة في النص المذكور، وبالتالي فإن التعديل الجديد استهدف استثناء فاعل الجريمة من تطبيق العذر القانوني المخفف إذا وقعت تلك الجريمة على أنثى «بدواعي الشرف».
ولا بد أن نلحظ هنا أن القرار بقانون الأول الذي صدر عام 2011 قد استخدم عبارة «شرف العائلة» فيما استخدم القرار بقانون الثاني 2014 عبارة «دواعي الشرف»، الأمر الذي من شأنه أن يثير العديد من التساؤلات حول المقصود بعبارة «شرف العائلة» في القرار بقانون الأول وعبارة «دواعي الشرف» في القرار بقانون الثاني لغايات الاستثناء من تطبيق الأعذار القانونية المخففة من حيث المبدأ؟
وبخاصة أنه لا توجد تعريفات في قوانين العقوبات النافذة في الضفة والقطاع للمقصود بشرف العائلة أو دواعي الشرف، وهي غير واردة أساساً في نصوص تلك التشريعات العقابية السارية، وحيث أن تلك المصطلحات عامة وفضفاضة ونسبية وتحتمل عدة تفسيرات بحسب الثقافة المجتمعية السائدة فكيف يمكن الوصول إلى تعريف واضح لها حتى يتم استثناؤها من تطبيق الأعذار القانونية المخففة؟
كما ولا يبدو واضحاً «شرَف مَن» المقصود بالتعديلات حيث أن العبارات المستخدمة في التعديلين التشريعيين تعود على أكثر من جهة (شرف العائلة/دواعي الشرف)؟! ولا يبدو واضحاً سبب اهتمام التعديلات بالبواعث التي ينبغي أن لا يكون لها قيمة في التجريم على حساب الاهتمام بالجريمة ذاتها (القتل) وما تنطوي عليه من تمييز ضد المرأة، وإذا ما أراد المشرّع تحقيق الحماية للمرأة وتحقيق الردع في الجزئية الخاصة بجرائم قتل أو إيذاء النساء فبإمكانه ببساطة أن يستثني (جرائم قتل أو إيذاء النساء) من النصوص العقابية التي تمنح الأعذار أو الأسباب المخففة، دون أن يُقحم نفسه في بواعث القتل ومصطلحات مثل الشرف وشرف العائلة غير واضحة المعالم! وبالتالي، فإن الدخول في مسألة البواعث ومصطلحات الشرف، علاوة على أنه يثير العديد من الإشكاليات التي لا مبرر لها، فإنه دخول عبثي طالما أن الهدف الأسمى هو حماية النساء من جرائم القتل والإيذاء.
ومن جانب آخر، فإن استخدام مصطلحات من قبيل «شرف العائلة» أو «دواعي الشرف» يبدو مضللاً ومخادعاً ولا يحاكي الواقع، بل ويوحي أننا أمام عمل بطولي (شرف العائلة/دواعي الشرف) في حين أننا أمام جرائم قتل دنيئة تستهدف النساء وتنطوي على تمييز ضد المرأة ومعاقب عليها في قانون العقوبات، ولها أسباب ودوافع عديدة، بما يستلزم مراجعة المصطلحات المستخدمة التي تساهم عن قصد أو عن غير قصد في انتشار التمييز ضد المرأة والحط من كرامتها واعتبارها في المجتمع!
يبدو أن حالة الارتباك والفوضى التي تعاني منها التعديلات الواردة على قوانين العقوبات من خلال القرارات بقوانين ستبقى مستمرة، باستمرار الجرائم التي تستهدف النساء، في ظل غياب رؤية واضحة في المعالجة التشريعية وأداء مهني في التعامل مع التشريعات العقابية وغياب مشاركة مجتمعية فاعلة وقادرة على أن تقود المشرّع نحو الاتجاه الصحيح في المعالجة التشريعية بحظر وتجريم أي تمييز يمارس ضد المرأة أياً كان شكله، وفي المعالجة غير التشريعية في مواجهة ثقافة عاتية من التمييز ضد المرأة وانتهاك حقوقها ووضع العقبات أمام مشاركتها الفاعلة في مختلف نواحي الحياة.
ترقيع تشريعي ثالث محتمل في مواجهة ظاهرة قتل النساء
بالرغم من التقدم الهام الذي سجله مشروع قانون العقوبات الفلسطيني الجديد على صعيد حماية المرأة وإنصافها وتجريم التمييز الواقع عليها وفرض عقوبات رادعة في مواجهته، والتقدم الذي أحرزه في مجال حماية الحقوق والحريات عموماً، واستناده إلى العديد من المواثيق الدولية، إلاّ أنه وفي ظل المطالبات الواسعة بإقرار هذا المشروع لا بد وأن نؤكد مجدداً على أهمية مراجعته جيداً وبطريقة مهنية قبل التسرع بإقراره، وبخاصة أن المعالجة التي يطرحها مشروع قانون العقوبات في هذا المجال تحديداً، ومجالات أخرى تخرج عن إطار موضوعنا، تحتاج إلى مراجعة جدية وإعادة نظر.
ولا أدل على ذلك من أن مشروع قانون العقوبات الجديد لا يستثني «جرائم قتل النساء» من الأعذار القانونية المعفية أو المخففة للعقاب المنصوص عليها في المادة (149) من المشروع، والتي تُتيح استخدام تلك الأعذار في الجرائم التي ترتكب «لبواعث شريفة أو بناءً على استفزاز خطير من المجني عليه بغير حق». وبالتالي فإنه يمكن اللجوء إلى تلك الأعذار في جرائم قتل أو إيذاء النساء.
والحال كذلك أيضاً، في الأسباب المخففة القضائية التي ترجع للسلطة التقديرية للقاضي المنصوص عليها في المواد (152) و (153) من مشروع قانون العقوبات الجديد، فهي لا تستثني جرائم قتل وإيذاء النساء من تطبيق الأسباب المخففة القضائية. وبذلك، فإنه وبإقرار هذا المشروع الجديد، فإننا نعود مجدداً إلى نقطة الصفر في المعالجة التشريعية العقابية الخاصة بجرائم قتل أو إيذاء النساء!
ومن جانب آخر، فإنه وفي حين نجد أن مشروع قانون العقوبات الجديد قد فرض في البند الأول من المادة (367) عقوبة السجن المؤقت مدة لا تقل عن خمس سنوات على من تفاجىء بمشاهدة زوجه (الزوج أو الزوجة) في حال تلبس بالزنا أو في فراش غير مشروع وأقدم على قتلهما أو أي منها أو اعتدى عليهما أو أي منهما اعتداء أفضى إلى إحداث عاهة مستديمة، فإننا نلاحظ أن البند الثاني من النص المذكور لا يُجيز الاحتجاج بحق الدفاع الشرعي في مواجهة مَن يستفيد من هذا العذر.
أي بمعنى أنه لو استل الزوج سلاحاً (سكين) في تلك الحالة مثلاً واندفع باتجاه زوجته لقتلها فلا يجوز لها الاحتجاج بالدفاع الشرعي للدفاع عن نفسها من خطر القتل، بما يعني الاستسلام لعملية القتل التي ستحصل دون أن تحرك ساكناً، وإن قامت بالدفاع عن نفسها فقتلته فإنها ستعاقب على جريمة القتل، وهذا منطق شاذ وغير مقبول، فكيف نعتبر قيام الزوج بقتل زوجته والحالة تلك جريمة تستوجب فرض عقوبة جنائية، ومن جانب آخر لا نُجيز حق الدفاع الشرعي في مواجهة تلك الجريمة، خاصة وأن الدفاع الشرعي هو حق قانوني مباح في مواجهة خطر جسيم ومحدق بالقتل؟!
نخرج من ذلك، إلى أن مشروع قانون العقوبات الجديد يُعاني من حالة من التخبط في معالجة جرائم قتل أو إيذاء النساء، ولا يختلف كثيراً عن التشريعات العقابية القديمة السارية بهذا الخصوص ومعالجاتها الترقيعية التي جاءت في القرارات بقانون، بما يتطلب التدقيق والمراجعة جيداً بعيداً عن لغة التصفيق للمشروع الجديد والمطالبات المتسرعة بإقراره على عواهنه واستنساخ الأخطاء مجدداً!
نحو رؤية جديدة وحلول شاملة وجذرية لإنصاف المرأة
لا يمكن معالجة موروث ثقافي واجتماعي عاتي في نظرته الدونية للمرأة بحلول ترقيعية وفوق ذلك تعاني من حالة من الفوضى والتخبط وضعف واضح في الأداء. هنالك حاجة ماسة كانت ولا زالت وستبقى لنقاش مجتمعي جدي ومتواصل يشارك فيه المستوى الرسمي وغير الرسمي لبلورة رؤية واضحة على المستوى التشريعي لتمكين المرأة وحمايتها وحظر وتجريم أي شكل من أشكال التمييز ضدها وفرض عقوبات رادعة عليه وضمان تطبيقها على الأرض، وتنقية التشريعات الفلسطينية من كافة أشكال التمييز ضد المرأة، بالتوازي مع بلورة سياسات عامة قادرة على إنصاف المرأة في مختلف المجالات وحمايتها من كافة أشكال العنف والتمييز الذي يمارس ضدها، وحملات توعية وتثقيف مدروسة وممنهجة بعيداً عن العشوائية تطال مختلف المناطق ولا تتركز في منطقة على حساب الأخرى، يتخللها مراجعات شاملة للمناهج التعليمية في رياض الأطفال والمدارس والجامعات ولأساليب التدريس المتبعة لتكون منسجمة مع مبادىء وقيم حقوق الإنسان ولا سيما الحرية والمساواة والمشاركة واحترام الكرامة الإنسانية؛ على الأقل كي لا تبقى «رباب» حبيسة المنزل تساعد والدتها في الأعمال المنزلية المجهدة بينما «باسم» مستمر في اللهو بالكرة خارج المنزل أو مع أبيه لا أدري أين!