ارتبط الموقف من القضية الفلسطينية في وجدان نوتوهارا كما يذكر في كتابه الشهير " العرب وجهة نظر يابانية" من خلال فكرتين أساسيتين هما العدالة ووعي المسؤولية، فمع الأولى" العدالة" كان لا بد من تحميل البشر جميعهم مسؤولية أي جريمة تحدث على كوكبنا، حتى وإن لم يشاركوا فيها. لم يكن نوتاهارا ضد حق اليهود في الحياة الكرامة، ولكنه في الوقت نفسه يعرف أن العدالة لا تسمح بأن يكون هذا الحق على حساب شعب آخر، أو حتى التفكير بحل مشكلة اليهود بإيجاد مشكلة جديدة.
أما مع الثانية " المسؤولية" فكان لا بد من الاعتراف بأن النكبة الفلسطينية خطأ ارتكبه العالم، وما زال يتفرج عليه دون أن يعمل جديا على حله، وهنا تحضر فلسطين امتحانا كبيرا لعدالة البشر ووعيهم لمسؤوليتهم، وامتحانا أكبر للكرامة والشرف والضمير.
عطفا على السابق، يبدو من الضروري مقاربة نوتوهارا لمعرفة الطريقة التي ارتآها لتحمل مسؤوليته الإنسانية تجاه فلسطين. ويبدو من غير المستغرب على هذا الرجل الذي أعطى الثقافة العربية عمره كله والكثير من جهوده أن نراه وقد حمل مسؤولية القضية الفلسطينية من خلال الباب الذي يأتلف وموقعه البحثي الأكاديمي.
يحدثنا نوتوهارا عن صعوبات واجهت اليابانيين عموما في فهم القضية الفلسطينية بسبب التباس الموقف وتعارض وجهات النظر في وسائل الإعلام في اليابان، وبسبب ما ينقله الغرب عن هذه القضية، وهو ما دفعه باتجاه البحث عن الحقيقة بنفسه، لذلك وجدناه مبادرا إلى قراءة غسان كنفاني وبالتحديد " عائد إلى حيفا" التي ترجمها عام 1969 ونشرها في مجلة أدبية مهمة تصدر في اليابان. وهي الرواية التي أدت دورا مهما ساعد اليابانيين علىى فهم جزء من القضية الفلسطينة، وبالمثل سمحت بقية أعمال غسان المترجمة بما في ذلك "رجال في الشمس" للقارئ الياباني بتتبع تطور القضية الفلسطينية من وجهة نظر المظلوم لا الظالم، بما لا يدع مجالا للشك في أن الصراع الفلسطيني الصهيوني يحتاج إلى من يرى ويعي هذه الجريمة الكبرى التي لا يجوز مقابلتها بالصمت.
من هنا يحدثنا نوتوهارا عن الأثر العميق الذي تركه غسان كنفاني في وجدانه، بكل ما يمثله هذا المناضل من علاقة مكينة بين موقف الكاتب والمستوى الفني لإبداعه، ولذلك توقف كثيرا على جملة ( سعيد) في " عائد لى حيفا" من أن الإنسان حالة أو موقف والتي احتار كثيرا في نقلها إلى اليابانية، ومن هذا الباب أيضا رأيناه يرفض وبقوة كل كاتب يمدح السلطة، أو يتجنب أن يكون له موقف واضح صريح من قضايا الشعب في البلدان العربية.
إذن وسط ضوضاء كبيرة حول القضية الفلسطينية كان غسان كنفاني هو الصوت الأقوى الذي صدقه نوتاهارا، فقد كان الكاتب الأصفى الذي تثبت مساراته رفضا مطلقا لكل أشكال التبعية لأي سلطة ما عدا سلطة ضميره الأدبي التي ترفض الاستسلام لأي ضغط خارجي. فلا عجب إذن لو كانت لغسان روابطه القوية مع الفلسطينيين، ولا عجب أيضا أن يكون كاتبهم الأثير، وهو من سجل أمام العالم كله كيف طرد الفلسطينيون وأصبحوا لاجئين، كما في " أرض البرتقال الحزين".
ولم ينس في" قميص مسروق" الأولاد الفلسطينيين الذين اشتغلوا في شوارع دمشق بعد النكبة، وهو من حرص على أن يكون قريبا من حياة المخيم الفلسطيني صيفا وشتاء في " زمن الاشتباك". وكان من أوائل من عبرت كتاباته عن يقظة الوعي الفلسطيني عبر جيل من الفلسطينيين الصامدين الذين لا يعرفون التعب، ولم يفكروا في حياتهم الفردية قدر تفكيرهم بحياة الشعب الذي ينتمون إليه؛ فقد كانوا يشمون راحة الخبز من البارود عندما يطلقون الرصاص. لكن ما الذي يحصل الآن؟ هنا يمر نوتاهارا مرا سريعا إزاء اتفاقية أوسلو التي يفضل السكوت إزاءها، مع سؤال معقد يفرض نفسه: لماذا لم يأت العالم إلى القضية الفلسطينية؟
من خلال ما كتبه غسان وغيره من أدباء تعرف نوتاهارو على الشعب الفلسطيني، كما عرفه عن قرب أثناء زيارته بيتا فلسطينيا على أطراف مخيم اليرموك، حيث رأى الفلسطيني وقد حمل مفتاح بيته في فلسطين التي غادرها رغما عنه، في دلالة على أن المخيم كان وما زال مكانه المؤقت، وأن التنازل عن حق العودة مستحيل.
من بين الأدباء الذين قربوا فلسطين من وجدان هذا المستعرب أيضا نقرأ اسم حليم بركات في " ستة أيام" الرواية التي شرحت ما كان عليه الوضع في فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل، وكذلك نثر محمود درويش " يوميات الحزن العادي" لا شعره الذي واجه صعوبة في ترجمته للغة اليابانية. يبرز كذلك إميل حبيبي وإبراهيم الصوص ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس الذي قام بتوظيف موضوع الانتفاضة عبر " رسالة إلى صديق يهودي".
أما أن يتاثر اليابانيون بغسان كنفاني وغيره ممن حمل موضوع القضية الفلسطينية، فلأن في أروقة المكتبات جمهورا من طبعه تغذية روحه وفكره من خلال الفلسفة والأدب وباقي ألوان الإبداع.
لذلك كان لترجمة الرواية وتقديمها لجمهور يقرأ ويهتم بالشأن الإنساني أبعاده اللافتة، خصوصا أن الدارس الياباني إذ يهتم في العالم العربي، فإنه يفعل هذا بعيدا عن اهتمام سياسي رسمي، فكل ما يهمه هو البحث عن حقيقة طالما حرص الإعلام الأمريكي والأوروبي على تشويهها.
ويبدو جميلا في هذا السياق ما يحدثنا به الكاتب عن شباب ياباني تجتذبه السفارة الإسرائيلية للدراسة في إسرائيل على حساب الحكومة الإسرائيلية، لتكون النتيجة مخالفة لما تريده السفارة، إذ ما إن يلمس هذا الشباب التناقض المريع الذي تمارسه إسرائيل بين ما تقوله في إعلامها وبين الواقع حتى يقف ويقول: " إسرائيل لا تستطيع الكذب علينا".
أنهي بالتذكير أن الإنسان فعلا موقف، ومع فلسطين لا بد أن يكون هناك موقف كتابي وحياتي وسلوكي. إن كانت هذه هي فلسطين في وجدان هذا المستعرب الياباني، فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن كيف هي فلسطين في وجدان الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج؟؟