يتألمن ويبكين، كيف لا وهن يعشن ألم وبكاء المرضى، إما كأمهات أو كزوجات أو كبنات لمرضى، ويعشن لحظة بلحظة حياة مريض الهيموفيليا و يتنقلن مع هؤلاء المرضى في أروقة المستشفيات بانتظام. حيث تبدأ مسيرة المعاناة لهم كأطفال منذ الولادة و تستمر رحلة عذابهم من الطفولة، مروراً بسن الشباب وتستمر حتى الشيخوخة، إن لم يتوفاهم الأجل مبكرا.
إنهن قريبات مرضى الهيموفيليا يتألمن نيابة عن المرضى ليلاً ونهاراً، إذ ينزف المرضى من أنوفهم وأفواههم لفترات طويلة، ولا يستطيع المرضى المشي بسبب تورم أقدامهم بفعل النزف الداخلي، أو لا يستطيع هؤلاء ثني أطرافهم نتيجة النزف والتورم الذي أصاب مفاصلهم، حتى أنهم يعانون يوماً بعد آخر من حدوث نزيف في أمعائهم والمسالك البولية وحتى في حناجرهم وأعضائهم الداخلية، ويصاحب هذا كله ظهور آلام موجعة في المفاصل، وغالبية النزف يحدث لديهم بشكل تلقائي أو حتى بفعل أبسط الكدمات والجروح.
قد يتساءل البعض لماذا بدأت هذا المقال بالحديث تحديداً عن الأمهات والزوجات والبنات في حياة مريض نزف الدم والهيموفيليا، لم لا وهن أول من يعشن تلك المعاناة لحظة بلحظة مع المريض، ويعشن حياتهن رغم أنهن مدركات وبصمت ألم هذه المعاناة وما يحتاجه مريض الهيموفيليا من توفير للعلاج.
وأنا كذلك مدرك للمرض. لذا بدأت حياتي واستمريت مع مرض الهيموفيليا ليس كمشاهد أو عابر سبيل، وإنما كطفل هيموفيليا نما وتربى في مجتمع الهيموفيليا منذ نصف قرن مضى وأكثر، وأصبحت متابعاً للحالات وتعرفت على أطفال وشباب وكبار السن ممن يشاركونني هذا المرض، وقد عشت معهم تفاصيل ومعاناة المرض، وتربينا معاً كعائلة واحدة مصابة بمرض الهيموفيليا، وبدأت احتياجاتنا تكبر وتتراكم، وكبرنا معاً داخل أروقة المستشفيات في الضفة الغربية والقدس المحتلة وقطاع غزة، حتى أننا جلسنا تحت سقف واحد داخل جمعية تعنى بمرضى الهيموفيليا.
بينما ينظر البعض بتجرد لمعاناة هذه الشريحة المهمشة من مرضى الهيموفيليا، إلا انه يجب أن نعطي أهمية لهم ولمعاناتهم المستمرة ونربط معاناة هذه الفئة بخصوصية كونهم مرضى نزف الدم و هيموفيليا، وعلينا معرفة طبيعة وكم الإعاقات الجسدية والحركية والجسدية التراكمية التي يعانون منها.
ويكمن هذا الإدراك من خلال الحس الإنساني الفطري أو الديني أو الأخلاقي وبالشعور والتعاطف مع الاخرين من البشر. فمعاناة هذه الشريحة هي الخطر الدائم على حياتهم نتيجة النزف المتكرر، وعدم توفر الأدوية اللازمة لهم وعدم توفر الرعاية الصحية المناسبة لهم، و ما يسببه هذا الأمر من حدوث اعاقات جسدية وحركية متراكمة ، وآلام مبرحة ناتجة عن هذه الظاهرة المرضية فمن الإعاقات ما هو المخفي أو الظاهر ومنها الجسدي والنفسي .
إدراكي وتفهمي ومشاعري الجياشة لهذه الاحتياجات والمعاناة نابع من تجربة شخصية مررت ولا زلت أمر بها منذ أكثر من خمسة عقود، و هي نموذج مصغر عن مرضى الهيموفيليا في فلسطين . إلا أن مقدرة الوعي والفهم لطبيعة هذه الأمراض والتي تزيد عن ثلاث عشر نوعاً وأكثرها شيوعاً الهيموفيليا (ألف، باء)،لا ينحصر بداخلي فقط بلس يستطيع إدراكه كل المرضى وعائلاتهم و المجتمع المحيط بهم والقريب منهم وممن يعانون أثار المرض أو من أناس مهنيين او متطوعون يعملون مع المرضى بمهنية وباستمرار. ومن خلال مهن طبية واجتماعية يتم ادراك معنى المعاناة الحقيقية لشخص مريض الهيموفيليا والذي يتردد على المستشفيات بشكل مستمر.
كتمت الألم والمعاناة والشعور بالحزن لذاتي لسنوات طويلة، وامتنعت عن إظهار أو الطلب المباشر بالمساعدة أو حتى إظهارأي رغبة بالتعاطف معي ومع المرضى الاخرين، و حاولت إخفاء خصوصية احتياجاتي الطبية والاجتماعية عن أصدقائي وزملاء الدراسة.
كنت أحاول دوماً إقناع نفسي بأنني لا أختلف عن أي إنسان اخر ما دام أن العلاج متوفر لي، وهناك من يهتم بي صحياًواجتماعيا ًوهذا حال معظم المرضى وعائلاتهم حتى اللحظة. وفي الواقع لم لا يتوفر العلاج لمرضى نزف الدم والهيموفيليا في فلسطين كما يجب ؟ ولماذا لا تتوفرالرعاية الصحية الكاملة لهم؟
غادرت فلسطين المحتلة بعد طول معاناة، وعشت في دولة غربية وهناك رأيت بل تلقيت الخدمات الطبية والصحية المناسبة بل كانت الأدوية والعلاجات تصلني إلى المنزل وتبقى معي على مدار الساعة بحسب البروتوكولات العلاجية، بل تم تدريبي ومتابعتي على أخذ الأدوية بمهنية، وحصلت على التمارين اللازمة لمفاصلي من أجل الحفاظ عليها.
الأهم من ذلك أنني مارست تجربة العمل الإنساني مع شريحة من مرضى نزف الدم والهيموفيليا وبمشاركة فريق العلاج الطبي والاجتماعي بجانب المتطوعين، و شاركت المرضى الاخرين وعائلاتهم ومناصريهم في أنشطة دورية مستمرة مطالبين بحقوقنا. وأدركت حينها معنى الحق بالصحة والذي اقرته المواثيق الإنسانية و الاتفاقيات العالمية، ودور الجهات الرسمية اساساً و ومساهمة المتطوعين غير الملزمة في توفير الرعاية تلك.
من حقنا أن نقيم حالة مرضى نزف الدم في فلسطين ونرصد أوضاعهم الصحية والاجتماعية، وبذلك علينا أن لا نحمل نعلق نقص العلاج على شماعة الاحتلال أو شح الميزانيات. أستطيع القول أننا في المجتمع الفلسطيني لا زلنا نسيرببطء شديد لتوفير الحد الأدنى لمرضى نزف الدم والهيموفيليا بالرغم من جهود أشخاص ومؤسسات.
قلة سوء التشخيص واضح للعيان، وعلاجات المرضى وأدويتهم والتي تسمى بالعوامل المخثرة لا زالت لا تتوفر بانتظام لدى وزارة الصحة، ولا تعطى للمرضى العوامل المخثرة حسب البروتوكولات العلاجية في المستشفيات ولا يتوفر العلاج البيتي. وتغيب الرعاية الشمولية للمرضى في العيادات الدورية لتخصصات مختلفة كالدم والعظام والعلاج الطبيعي والتغذية وغيرها . أما الجراحات التخصصية فلا تتوفر للمرضى كما يجب، وأما الدعم النفسي والاجتماعي فإن قلنا أنه في الحضيض فإن وصفنا هذا قد لا يكون أقرب للدقة.
تسعى جاهدة الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم لتوفير الخدمات والرعاية الطبية والاجتماعية للمرضى من خلال مبدأ الحق في الصحة كأساس للعمل وبوصلة للتوعية والتثقيف والحشد والمناصرة حيث بدأ هذا الجهد المنظم منذ عشرين عاماً، وبعيداً كل البعد أن تكون الجمعية بديلاً أو أن تطرح نفسها كبديلا عن الوزارات التي تقدم الخدمات لمرضى الهيموفيليا.