لستُ إلا واحدٌ من سبعمائة جريح من جرحى وقتلى أحداث "الإنقلاب الأسود" الذي أنتج ظلام الإنقسام الطويل وأعوام الرمادة العشر، وربما أكون أكثر هؤلاء الجرحى حظاً؛ حيث أنني ما زلتُ أحتفظ بساقاي ونصف ركبة، والكثير من مشاهد وصور وذكريات أليمة مع أولئك الذين جمعتني بهم المشافي التي اكتظت بنا يوم أن سحقت أرجلنا بنادق ذوي القربى.
أذكر آناتهم وصرخاتهم وصياحهم وأحاديثهم وحكاياتهم مع البارود الذي نال من أجسادهم، أحدهم لا يريد أن يرى أرجله المقطوعة في المرآة وواحدة تتعالى صرخاتها ألماً كلما اشتد عليها الجرح وآخرون في انتظار البتر بمن فيهم أنا؛ لكنني نجوت من ذلك وقدر الله أن يفلح العلاج من القضاء على الميكروب الناتج عن الرصاص الذي اخترق ركبتي وأعاق وظيفتها.
كنا يومها حديث الساعة وظننا بأننا أكبر كارثة أنتجها "الإنقلاب"، لم نكن نعلم بأن غزة كلها ستتقلب على صفيح ساخن لسنوات من الضياع يضرب فيها الظلام أطنابه، وحرب تسلمنا إلى حرب، وفقر وبطالة وظلم وحصار وسجال وجدال بين هذا وذاك حتى توزعت دماءنا بين القبائل وبتنا نبحث عن بقعة ضوء وطوق نجاة.
اعتدتُ الكتابة في كل ذكرى "انقلاب" بشكل مختلف ليس من باب لفت الأنظار والإستعطاف ولا للإستعراض لا سمح الله، إنما من باب دق الخزان الذي ما توقفنا عن قرعه منذ عقد من الزمان، كتبتُ شعراً وقصصاً ومقالات حتى رواياتي لم تخلو فصولها من هذا الفصل المظلم في تاريخنا المشرف الناصع البياض بما سطرت صفحاته من آيات التضحية والفداء عبر معارك ثورتنا الفلسطينية الطويلة التي خطت وجودنا على الخريطة رغم كل محاولات الشطب والطمس والتزوير.
مرة عفوت وصفحت ومرات دعوت للمصالحة المجتمعية والوحدة الوطنية، رجوتُ وناشدتُ كثيراً أن أسدلوا الستار عن هذه الحقبة القاتمة المقيتة، وتعالوا بنا على حد سواء نطوي تلك الصفحة السوداء من كتاب مجدنا الذي سطرناه بدماء شهدائنا الطاهرة؛ لنصنع منها ومن آلامنا مستقبل أجيالنا الشابة الذين نهشهم هذا الإنقسام والتهم ما تبقى لهم من من آمال وطموحات وأمنيات، حتى باتوا يتوقون للهجرة وامتطاء أمواج البحار العاليات؛ هرباً من واقعهم المر وانعدام آفاق المستقبل حتى لو كلفهم هذا الأمر حياتهم.
كجريح من جرحى ذلك "الإنقلاب" أقول بأنني كغيري كل يوم أصاب بخيبة أمل جديدة؛ جراء ما يحدث من هرج ومرج لن يفضي إلا لمزيدٍ من المعاناة التي تكبدناها وما زلنا نتكبدها، فما عدنا نسمع غير "فلان" سافر وعاد "فلان" والتقى "علان" مع "علان"، وتُهنا بين شدٍ وجذب وتهديد ووعيد وتحميل مسؤوليات وحجر مستحقات ومنع من السفر لعلاج آثار ذلك الجرح وتضييق وخناق واستهدافنا في أشياء كثيرة، ناهيك عن القمع والإعتقال على خلفية الرأي والكلمة ومصادرة الحريات، كلها والحمد لله طالتني وربما طالت آخرين من جرحى الإنقلاب، فشكراً يا سادة على كل هذا.
كل هذا ليس مهماً بل الأهم أن نجد ضالتنا وطريق الخلاص، لا أن نعزز الكراهية ونكرس الإنقسام والبغضاء فيما بين شقي الوطن، خاصة بعد الحراك الإقليمي والدولي الذي يشهده العالم وسياسة البيت الأبيض الجديد إزاء مجمل الملفات الساخنة وما نتج عنها من تداعيات ما نحن إلا ترساً صغيراً فيها بسبب تشرذمنا وانقسامنا الذي قد يجعلنا ضحية هذا الحراك الكبير، ناهيك عن أننا هدفاً رئيسياً لهذه الساسية الدولية والإقليمية التي ترمي إلى تصفية وجودنا وشطبنا عن الخريطة التي تعمدت بدمائنا الزكية.
يا أبناء يعقوب، اليوم وبعد هذا العقد من الظلم والظلام ألا آن الأوان لعودتكم إلى جادة الصواب وأن تعترفوا بذنبكم الذي اقترفتموه؛ لعل العزيز يوسف يصفح عنكم ويأخذ بنا جميعاً إلى أبينا قبل أن نصبح تنابل السلطان الجديد، نتقرب إليه ونؤدي له فروض الطاعة ونستجدي منه صكوك الغفران؛ تكفيراً عما اقترفناه بأخينا، فنبرئ يعقوبنا بقميص يوسف ونلتمس العفو ونعود لنهبط في هذه البلاد آمنين.
يا قوم، تذكروا بأن الشمس القائظة تلهب الصفيح، تذكروا أن "أبا الخيزران" أشغله سفلة الحدود في تفاصيل وهم الراقصة والطبال؛ ولم يدق صحبه جدار الخزان، تذكروا بأن ذوي الأرجل المقطوعة سبقتهم لعبة الصمت قبل أن يزحفوا على صدورهم ويغرقوا في تفاصيل العتمة.
واعلموا بأن هذه المرة ربما تكون الأخيرة التي أكتب فيها عن ذلك الجرح وتلك الذكرى؛ فقد سئمت المارين على جراحنا وضُجت من الظواهر الصوتية التي لا تخترق جدار الخزان، ولأن كل ما ندعيه في الظاهر من مساحات بيضاء هو في الباطن ردة ليس بعدها ردة وشيطنة شط مذاقها ولم يعد يتسعها الشدقان.
لا تدعونا نسقط من جلباب الوطن في براثن الكذبة الكبرى التي لا يدحضها غير الوحدة الوطنية وتجاوز هذا الإنقسام البغيض ورحمتنا من فصل الظلام العتيم.
كل ذكرى وجرح حزيران يدق الخزان
غزة الحزينة
١٤ حزيران ٢٠١٧