تصدر عدد من المنظمات الدولية تقارير سنوية أو شهرية عن أوضاع حرية الصحافة في مختلف دول العالم، ولعل تقرير منظمة " مراسلون بلا حدود" السنوي هو الأبرز في هذا المجال. وهو يعتمد على مجموعة من المعايير أبرزها: تعددية وسائل الإعلام، ومدى استقلاليتها، وبيئة العمل الصحفي، والبيئة القانونية للنشاطات الاعلامية وحرية الوصول للمعلومات، والانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون ووسائل الإعلام، وجودة البنية التحتية التي تدعم إنتاج الأخبار والمعلومات.
وغالبا ما تتنافس الدول الاسكندنافية بالإضافة إلى سويسرا وبلجيكا وهولندا ونيوزيلندا، على احتلال المراكز الأولى في هذه القائمة، والاختراق الوحيد للعشرية الأولى هو لدولة كوستاريكا الصغيرة والمتواضعة في إمكانياتها، بينما تتنافس الدول العربية مع بعض الدول الافريقية وأنظمة الحكم الشمولي على احتلال مؤخرة الترتيب، وثمة بلد واحد فقط من دول الجامعة العربية هو جزر القمر يحتل موقعا محترما ضمن المواقع الخمسين الأولى (44).
من المحزن أن فلسطين، شأنها شأن معظم الدول العربية، تحتل مركزا متأخرا ( 135 من 180 بلدا) في تصنيف الحريات الصحفية، مع العلم أن الانتهاكات الفظيعة التي يرتكبها الاحتلال لحرية الصحافة في فلسطين، تمس بمكانة دولة الاحتلال ولا تمسنا، فإسرائيل تحتل المركز 91 وهو موقع متأخر عن كل دول الاتحاد الأوروبي التي تعتبر الدولة العبرية نفسها جزءا منها ثقافيا وحضاريا.
كان من المفروض أن يؤدي الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، وما تبع ذلك من انضمام فلسطين لمعاهدات واتفاقيات دولية شتى، ثم توقيع الرئيس محمود عباس على إعلان دعم حرية الإعلام في العالم العربي في آب من العام 2016، إلى إطلاق عملية شاملة وواسعة تنهض بواقع الإعلام، وتعزز الحريات الصحفية وحرية التعبير، وتؤدي بالتدريج إلى تحسين مكانة فلسطين في سلم الحريات الصحفية العالمي، وهو هدف ليس مطلوبا لكي نتباهى به ونفاخر به الأمم، لكنه مطلوب للارتقاء بالإنسان الفلسطيني، واحترام آدميته وحقوقه، وتعزيز صموده وارتباطه بوطنه وقضيته، وتأكيد جدارة الفلسطينيين بالحرية والدولة المستقلة كاملة السيادة.
ومن المؤسف أن شيئا لم يتغير لتحسين مكانة فلسطين على سلم الحريات الصحفية، بل على النقيض، يبدو أن التغيرات تجري في الاتجاه المعاكس، فالانتهاكات بمختلف أشكالها مستمرة بحسب تقارير مركز (مدى) ونقابة الصحفيين وغيرهما من المؤسسات، والبيئة القانونية لم تتغير، وقانون الوصول للمعلومات ما زال حبيس الأدراج، وحدث بلا حرج عن استقلالية المؤسسات الصحفية والرقابة الذاتية، والطامة الكبرى هي في القرار الغريب الذي أصدره النائب العام بحجب 19 موقعا إعلاميا حتى الآن وهو قرار كفيل لوحده بدفع فلسطين عشرين مركزا إلى الخلف.
ولأن الشي بالشيء يذكر، نسوق هذه الواقعة التي يعرفها كثير من الصحفيين: في العام 2007 كانت أنظار الفلسطينيين وكثير من أصدقائهم في العالم معلقة صوب خطاب مهم للرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة، في نفس الساعة تعرض الصحفي وائل الشيوخي للضرب من قبل الشرطة الفلسطينية في بث حي ومباشر حين كان يغطي مسيرة ما، صورة الصحفي الذي يصرخ ألما سرقت الأضواء والتركيز من خطاب الرئيس، وثمة أوساط سياسية وإعلامية واسعة ومؤثرة تتلهف لمثل هذه السرقة، فهل أدرك الشرطي أو الضابط حينها مدى الضرر الذي ألحقه بصورة فلسطين أمام العالم؟ من المؤكد أنه لم يدرك. والسؤال الآن في ذمة القائمين على قرار حجب المواقع: هل تدركون ايها السادة مدى الضرر الذي تلحقونه بمشروعكم الوطني؟!