كلما زرت مدينة القدس والمسجد الأقصى في رمضان من كل عام ينفطر قلبي فرحاً يدوم ولن ينسى، سعادة تفوق آلام وجراح القدس، لذة الصلاة في الأقصى مرة كل عام، وشوقٌ يسري في دمي من رمضان إلى رمضان. تصاحبك المشاعر الجياشة حين تحط أولى خطواتك داخل أزقة البلدة القديمة في القدس داخلاً إليها من باب الزاهرة؛ لترى قبة الصخرة من بين تلك الأزقة، ترسم على عينيك لوحة من الجمال.
لكن تلاشى الفرح والشوق والسعادة واللذة والشوق في رمضان هذا العام، وطغى ألم القدس على كل ذلك. دخلت إلى المسجد الأقصى وتجولت فيه، وبحثت عما أريد وانتظرت كثيراً وغادرت وأنا أنتظر.. غادرت وقلبي يعتصر ألماً على ما بحثت عنه وانتظرته ولم أجده، بحثت عن وجوه اعتدت عليها في المسجد الأقصى وانتظرتها على أمل أن اراها، فكان لها نكهة أخرى في الأقصى، وكان يحلو اللقاء بهم أو مشاهدتهم في الأقصى، كنت أرى رباط الأقصى في عيونهم وفي أجسادهم سداً للاقتحامات، وصيحات الله أكبر تقاوم تدنيس المسجد، نساء ورجال، شيبا وشبانا. آلمني غيابهم قسراً عن المسجد الأقصى، الإبعادات عن المسجد بالجملة، كان ألم ذلك فاق ما كنت أسمعه عبر وسائل الإعلام حول الإبعاد عن المسجد الأقصى، كنت أسمع بالإبعاد كل يوم بيومه وأنسى اليوم الذي سبقه، فهذا الحال الذي وصلنا له اليوم نعيش جراح اليوم وننسى طعنة الأمس.
لم أتصور الإبعاد عن المسجد الأقصى بهذا الحجم، ولم تقف عند هذا الحد، بل انتقلت القائمة الذهبية من بابي السلسة وحطت إلى السجون، ولم تقتصر على المواطنين المقدسيين، بل شملت فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، وإن اختلف مكان وطريقة الإبعاد، فالتهمة واحدة.. حُبُّ الأقصى، وهذا أشد ألماً من جراح مدينة القدس.
وحين غادرت المسجد الأقصى من باب القطانين وتجولت في أسواق البلدة القديمة، والبسطات التجارية قرب محطة باصات العمود، رأيت تجاراً قُهروا، ارتسمت على شفاههم بسمة كاذبة، تعزز من صمودهم في محالهم التي يفتحون أبوابها في شهر رمضان، وآخرون يضعون بسطاتهم على حافة الطريق، وقد أنهكتهم الضرائب القاهرة وأبعدتهم عن محلاتهم وكدَّست بضائعهم وكبدتهم خسائر فادحة وما زالوا صامدين أمام كل هذا العذاب والقهر، صامدين رغم انهيارهم المادي والاقتصادي، ببضاعتهم يعطون رونق الجمال والحيوية لأسواق مدينة القدس، وصمودها رغم انهيارهم، يقفون على شفا حفرة، يمنعون أنفسهم والقدس من الانهيار، يبحثون على بلسم لشفاء كل هذه الجراح.
فلنكن بلسما لجراح القدس، ولنشد الرحال إلى المسجد الأقصى، ولا سيما الرجال والنساء فوق 55 عاماً ممن يسمح لهم بالدخول في كافة الأيام، ولتكن وجهتنا المسجد الأقصى، وأسواق القدس، ولنكن جزءًا من بلسم جراح مدينة القدس، بلسما لأقصاها الذي يدنس، لتجارها، لنشتري من تجار مدينة القدس، ولا تكن وجهتنا إلى مراكز التسوق الاسرائيلية، والتفاخر بالشراء منها لنقول اشترينا من (الكنيون)، ولنكن بلسماً لصمود أهلنا المقدسيين في بيوتهم، بيوتهم مفتوحة، ولنضع بلسمنا على جراحهم، ولا نكون سبباً في تعميق الجرح المقدسي بيننا وبينهم، هم أهلنا ونحن أهلهم.
"اتعبتنا القدس، أعني أتعبت كل البشر، لا أعرف مدينة على كوكب الأرض أتعبت أهل الأرض كالقدس. مدينة ترفض أن تكون أرضاً. وكيف تكون و المقدس يتكدس فيها، وعليها، وحولها، طبقة فوق أخرى وعلى امتداد كل العصور؟ ربما كانت أرضاً قبل إلمام الناس بشكل دنياهم وقبل أن تصلنا أخبار الله، وقبل أن تطأها صنادل الأنبياء ذات السيور الجلد وخطى اليقين. ربما كانت أرضا يوما ما لكنها، بكل هذا المقدس، أصبحت، للأسف الشديد، قطعة من السماوات". مريد البرغوثي