الحدث - عصمت منصور
لم يكن ليخطر على بال أحد منا أنَّ الشهداء سيضطرون لخوض معركة أخرى، ليس من أجل سمعتهم ومكانتهم فقط، فهذه ترسخت في وجدان الشعب وضمير أحرار العالم وذاكرة الإنسانية بأبهى الصور، بل أن يخوضوها ضد الأحياء الذين تجردوا من كل صفات الأحياء سوى قدرتهم على ادعاء الحياة.
إنها معركتهم المستمرة التي يخوضونها من خلال الأحياء (حقًّا) من بيننا، بما يجسدونه من قيم وطريق ونهج ووصايا، وبما رسموه من خطوط حمراء وطنية وإنسانية خطوها بدمائهم الزكية وتضحياتهم، معركتهم التي لم تبدأ ولم تنتهي ولا يمكن اختزالها في لحظة استشهادهم الأعظم من كل اللحظات والتي رفعتهم الى مرتبة أسمى؛ لتتوج طريق وأهداف آمنوا بها بكل يقين وضحّوا بحياتهم من أجلها دون تردد، ليتحولوا من مقاتلين عاديين إلى ملهمين.
لم يصبحوا قديسين بقدر ما اكتسبوا هالة من القداسة استحقوها ونحن أصبغناها عليهم لنعتذر عن ضآلة ما نقدم أمام ما قدموه، وعن كوننا بعكسهم تماماً لا زلنا على قيد الحياة التي قد تغري بعضنا بأن يرتد أو يخون ويضعف عزمه، ليقرر أن يستقيل من الوطن والتفرغ لمشروعه الشخصي.
من هنا أنظر -دون مبالغة- إلى إزالة نصب الشهيد خالد نزال من قبل بلدية جنين بعد تهديد جيش الاحتلال واحتجاج نتنياهو، على أنه نزول بالشهداء من هذه المكانة بكل أبعادها الدينية والإنسانية والوطنية، والهبوط بقيم مثل قيمة التضحية والوفاء والموت المقدس والواجب وغيرها من القيم التي وحدها تجعلنا بشر وتعلي إنسانيتنا وتميزنا عن عدونا وعن كوننا مجرمين إلى حيز ومجال العادي وتحويلهم إلى مجرد أسماء وأشياء يمكننا المناورة والتكتيك بها ومقايضتها مقابل هدوء حول الكرسي الوهمي الذي يجلس عليه البعض لا أكثر.
عندما أمر جيش نتنياهو وتواطأ البعض.. ثار الشهداء الذين في داخلنا، ثاروا من أجلنا لا من أجلهم، حتى لا نتحول إلى شبح لا ظل ولا حضور له، وكي لا تمسخ قضيتنا أكثر وكي يبقى لنا ما نعتز به في عيشنا اليومي الخاوي، وكي لا ينحسر المجد عن قادم أيام أبنائنا ويصبح حكراً على من هم تحت التراب فقط.
ثار رفاق خالد نزال في الجبهة الديمقراطية ليس من أجل قائد في فصيلهم، ثارت جنين القسام وثار معها الوطن، ثارت عائلة الشهيد وقريته قباطية، ليقولوا لنتنياهو إنَّ دم الشهداء الذي يسري في عروقنا ليس ماءاً.
أخيراً فإن ما يمكن أن يغفر حماقة وتخاذل البعض هم الشهداء والاختبار القيمي والإنساني الذي يضعوننا به كل يوم حول جدارتنا بإنسانيتنا.
واليوم وأمام هذا الانتصار للشهداء وإذ نترحم عليهم إنما أيضا وجب علينا أن نشكرهم لأنهم يذكروننا كيف نكون أحياء وبشرا أكثر.