بقلم :نجاة نصر فواز
بشارع الزهراء على مرمى من نظرة صوب الجبل الذي شهد صلب يسوع، جلستُ قبالة رجل من وجع، يبتسم والمسامير تنهش روحه الماً.
أن تطلب لأنسان أن يهيأ لك طقوس البكاء حفلة بكامل زينتها، وترجوه أن يسمح لك أن تعمد روحك بالوجع الذي فيه، قمة الجنون.
نذ ثلاثة أيام أجتهد لأكتب عن اللقاء الذي جمعني بالانسان المفرط بإنسانيته محمد عليان، بمكتبه، تحدثنا لبضعة ساعات، مر فيها الوقت كأنه لم يمر، حدثني عن جوانب من ذكريات جمعته بولده الشهيد العاشق للحياة، تحدث أكثر عن ذوي الشهداء، وعن الجثامين المحجوزة بثلاجة الاحتلال، تحدث عن تفاصيلهم بدقة الخائف عليهم، للحظة شعرته يذهب كل ليلة ليتفقدهم، يمسح الثلج عّن أجسادهم، يهمر دمعة دافئة، حرارتها تنقذ الجسد من لحظات البرد القارص الذي ترتشف الدم بالعروق التي أكلها الانتظار، ويشد الغطاء الابيض فوق الجثامين، ثم يعود لفجره بكامل تفاصيل الوجع.
موعد بثلاجة الاحتلال، حددناه للقاء القادم، وعممنا الدعوة لتشمل كل من ينتمي للأرض التي تشبهنا وتفهم علينا، وحده من حضر، ليرتب الورد هناك، ويزيل الثلج عن الاجساد التي ما عادت طرية، هي مثل ألواح الخشب قابلة للانكسار، لكنها أبداً عصية وهي تحتضن بعضها البعض..
وأنا أُرتبُ كلماتي كان السؤال الاكثر وضوحاً وتعطشا للإجابة،" لمن أكتب؟ تحدثنا كثيرا وحلمنا كثيرا هو قبض على الوجع بجمر القلب وأنا لذتُ خلف الصمت، مرات كثيرة كنت أبتسم، وفي بعضها كنت أضحك، كنت أهرب من غابة من الوجع لأنجو من وهم الفرح.
وظل السؤال": لمن أكتب، من يهمه وجع هذا الرجل، من يهمه أن يسمع صوت البكاء الآتي من أرض الحزن الحقيقي؟ ظل السؤال يدق أجراس القلب المسكون بمرارة الفرح الذي فيّ.
ندما غادرت الشرفة، نسيتُ جناحيّ هناك، لم استطع أن أحلق، لم أستطع أن أجمع شظايا فؤادي، لم أحاول أن ألملم كلماتي عن ألواح البِلوّر الكثيرة، والتي كانت تسير خلفي وأمامي وتهددني بالسقوط حد الانكسار.
لم تعد الحكاية بحجم الكلام. لم يعد الكلام يغطي الوجع، لم يعد لدينا متسعاً من الحزن، لم أعد قادرة أن أبوح لروحي بالجروح الكثيرة، تلك الجروح المصنوعة من الثلج العالق بين أصابع الجثامين المحجوزة بثلاجة الاحتلال.
شرفة المجانين جلس بها العديد من المثقفين، أين أقلامهم، لماذا لم يحولوها لمشارط يشرحون فيها الحقيقة لتتفتق عنها الحكاية، فتعري هذا العالم أمام حقارة موقفه من أجسادنا العالقة بحبل الريح؟
شرفة المجانين شرع محمد عليان نوافذ البهاء ليتسرب النور للقلوب التي أرتشفت قهوتها بالمكان المطل على الحرم، لماذا لم يحمل ولا واحد صليب وطنه، ويسير عبر درب الآلام، لماذا لم يأخذ كل واحد حصته من الوجع ليصنع منها مركبا يعبر من خلاله لشواطئ البشرية علها تصحو من سباتها.
بذات الشرفة كتب عليان كل قصائد الفرح الذي به وقصيدة وحيدة يتيمة، فستانها من حزن يقتل ببطئ، ويذبح من الوريد للوريد. قصيدة كعبها يصنع منها أنثى جمالها يخيف الناظرين لها.
ورسم بذات الشرفة لوحة من حياة مفعمة بالحياة، وحفنة تراب أخذها عن وجه أبنه حتى لا يضيق القبر عليه، وحتى لا تختنق فكرة الموت فيه، فينتصر على الموت ثلاث مرات قبل صياح الديك، فيصير بحجم الوطن أو أبعد.
وللحكاية تتمة من ثلج ووجع وقطعة نار بات البرد ثوبها الطويل.