أعادني ترامب بسياساته في الشرق الأوسط، إلى المربع الأول الذي كنت أبحث له عن اختزال ذكي يوصف ما بنت عليه الولايات المتحدة والغرب في مراحل سابقة، من سياسات لادارة الشرق الخاضع لاحتلال الدول العظمى بشكل مباشر وتلك التي خضعت لها بتبعيه مباشرة وباحتلال غير تقليدي " المعاهدات الدفاعية ".
كان لزامًا أن أبدأ قراءة بعض المحطات التاريخية التي مرت بها العالم والتي ساهمت بشكل مباشر لفرض واقع ما نحن فيه هذه الأيام. ربما تبدو قضية الأزمة الخليجية مع قطر، هي السبب وراء كتابة هذا المقال، لكن الحقيقة أن هذه الأزمة لا تعدو كونها عامل ثانوي، بيد أنها ساعدت على تعرية واقع العالم العربي وتعرية علاقات دول الشرق الاوسط ببعضها. كما أظهرت تبعية انظمتنا الحاكمة وسقف طموحها.
الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة العظمى وقائدة العالم بحسب معايير السيطرة والتبعية لها. لم تكن لتنجح في مساعيها أيًا كانت، دون أن تقيم اعتبارًا لمموروث الاستعماري للدول العظمى السابقة، ومنها من كان ولا يزال حليفًا وآخرون كانوا خصومًا وهزموا في المواجهات التي توجتها سيدة الهيمنة الأولى على العالم.
في استرجاع لتاريخ الاستعمار لمنطقتنا العربية، وإذا بدأنا منذ النهاية، أي في مرحلة الانتفاضات التي حدثت في دولنا العربية لنيل استقلالها، وهنا نجد التباين في الظرفية والمدة الزمنية لتحقيق الاستقلال بين هذه الدول.
لنأخذ حصة الدول العربية من الشرق الأوسط، فكان لهذه الدول صراعها التاريخي مع الاحتلال العثماني "تركيا" بحجة دينية وهي إقامة الخلافة الاسلامية وتمددها في دول المسلمين. وبعد أكثر من أربع مائة سنة من هذا الاحتلال، كان لا بدَّ لحلف المنتصرين على السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى "1919 " العمل على تأسيس حالة استعمارية قادرة على السيطرة بأقل الاثمان في منطقتنا. تم توزيع الحصص على الحلفاء فكان لبريطانيا حصتها من المستعمرات الجديدة ولفرنسا كذلك وسواها.
اخذت هذه الدول على عاتقها أن تدرس كل مستعمرة "بلد" كحالة فردانية لها خصوصيتها ومحاولة خلق الحالة الانتاجية الطموحة بتطوير الاساليب التي كانت تتبعها سياسة السلطنة العثمانية في الدول العربية.
لكن دخول هذه الدول الاستعمارية في حرب عالمية ثانية بالاكراه وهزيمتها لحد كبير قبل تدخل الاميركي لاعادة التوازن وتحقيق النصر على الدولة النازية، جعلها هذا الواقع أَضعف من أن تبقي على قواتها الاستعمارية في تلك المستعمرات، بل كانت الحاجة الملحة لهذه الدول أن تبدأ العمل على إعادة اعمار مدنها المنكوبة والتخلي عن معظم مستعمراتها التي استغل سكانها هذا الضغف لتعزيز زخم ثوارتهم المحلية ضد الاستعمار، مما دفعها لمنح هذه الثورات استقلالها " تكريس تقسيم سايس بيكو ".
المثير في هذه الاحداث هو ارهاصات السيطرة الاميركية " الدولة الجديدة " بعرف التاريخ، على دول الحلف الذي شاركت بالقتال معه، مما دفع الحلف الخصم إلى التوحد تحت راية الاتحاد السوفيتي الجديد.
خلال أعوام الحرب الباردة بين القطبين، خضعت منطقتنا لعدة نكبات وأهمها زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، لكن إعلان وجود هذا الكيان ومنحه "الاستقلال" لمنحه الشرعية بوجوده كدولة اصيلة في منطقة مغايرة تمامًا، لم يحدث هذا دون تحضير داخل فلسطين وخارجها، والأهم هو النموذج التي عملت عليه الدول الاستعمارية لتحقيقه في كل مستعمراتها واهمها دولنا العربية.
عاد العالم إلى نقطة الصفر، بل نحن كمنطقة عربية، عدنا إلى هذه النقطة والعالم قد تخطاها بمراحل نسبية. مع حضور شخصية اقتصادية رعناء كالرئيس ترامب كحاكم لاقوى دولة متعالية في العالم وحليفة للكيان الانغماسي الوحيد ككيان احتلال في العالم، بدأت تتضح تفاصيل الصورة أكثر لمن أراد أن يعرف قواعد اللعبة مع حلفاء الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة.
كل مزارع بسيط يملك مواش واغنام. يسعى هذا المزارع لتنظيم العمل الرعوي لديه من خلال أدوات بسيطة وعمل ذكي، وليضمن انضباط قطيعه ليقلل من عمله الاشرافي والانتاجي، يعمل على إيجاد المرياع داخل قطيعه. والمرياع هو "شيخ" قطيع الغنم الذي يتبعه كل القطيع أينما ذهب وأينما حل. فإذا بقي المرياع في مكانه لساعات فسيبقى القطيع في مكانه لساعات وإذا تحرك تبعه القطيع دون تردد.
من مواصفات هذا المرياع، انه بالامكان أن يكون ذكرًا أو انثى ولا يجز صوفه ابدًا ليعطيه شكلًا ضخمًا يضمن هيبته بين القطيع. يعلق على رقبته جرس رنان وطنان، يصدر الأصوات كيفما اتفق أن تكون حركة المرياع. ويعمد الراعي على هذا المرياع لتوجيه قطيعه في سهول الرعي والرحلة الخروج والعودة إلى المزرعة.
إلا أن هذه العلاقة بين المرياع والراعي، هي علاقة غير مباشرة، أي أن المرياع لا يتبع الراعي بشخصه بل يتبع حمار الراعي. وهنا نبدأ نفهم بعض ما أصبو لشرحه. يأخذ الحمل من امه فور ولادته ويسقى حليبها لفترة معينة دون أي يراها، ثم يوضع مع أنثى حمار غالبًا ليرضع منها حتى يعتقد أنها أمه بعد أن يكبر. يخصى فلا ينجب ولا يقترب من اناث القطيع، وبالطبع لا يجز صوفه للحفاظ على هيبته وتترك قرونه لتنمو.
تصبح علاقة الراعي مع المرياع، علاقة بوسيط يؤمن ولاء المرياع للوسيط وهو الحمار، الذي يظنه المرياع امه فلا يفارق الحمار ويخطو خطوة إذا لم يتحرك الحمار، فإذا تحرك تبعه.
يقود الراعي الحمار، يركب عليه، واحيانًا يعتمد الراعي على الحمار الذي حفظ طريق الرعي وطريق العودة إلى المزرعة.
بهذه الترتبية للعلاقات بين الراعي، وبين الحمار والمرياع والقطيع، يمكننا فهم نوع العلاقات السياسية الدولية في دولنا العربية ونوع علاقتها مع بعضها البعض وعلاقاتها مع الدولة الإقليمية والدولية.
نحن دول تقودها مجموعة من " المرياع" كل في بلده، وتربطه علاقات وثيقة مع قوة اقليمية، تمثل الحمار، وبعض المراييع تطمح بدور الحمار!
في النهاية نجد أن الراعي لهذه المنطقة هو الامريكي الذي يدير امور مزارعه بذكاء من خلال وكلاء "حمير" اقليميين، رغم اضطراره للتدخل أحيانا ب "هش" جزء من قطيع أو مرياع أو نخز الحمار هنا وهناك، واطلاق كلب الراعي " الكيان الصهيوني" لضبط تناغم القطيع.
يحتمل العالم اليوم وجود دول تحاول الخروج من دور الحمار لتصبح راع له مزارعه ومراييعه ومن هذه الدول، روسيا. وهناك ما نراه اليوم وهو ما يميز تناطح دول الخليج مع دولة قطر وهو صراع مراييع محلي بأبسط صوره الممكنة.