محمود درويش كان شاعراً عبقرياً ومبدعاً يتمتع بقدرة على تطويع اللغة ورسم لوحات فلسفية في غاية الدقة والأهم ربما أنه كان عقلاً سياسياً فذاً، ترك بصماته الأبدية على أهم محطات وعينا الجمعي المعاصر.
إعلان الاستقلال كان ولا يزال من أهم ما ترك لنا محمود درويش من تعبير صادق عن حقيقتنا وانعكاس عميق لمن نريد أن نكون كشعب وهوية. في هذا الإعلان، لخص درويش صورتنا المثلى والقبلة الاجتماعية والسياسية التي من أجلها ضحى عشرات الآلاف بحياتهم وأحلامهم وحريتهم. هؤلاء ضحوا حتى تكون وتبقى فلسطين وطناً حراً لشعب من الأحرار.
لم يكن درويش واهماً ولم تكن القيادة السياسية التي تبنت منحوتته اللغوية والسياسية تجامله حين تبنت وثيقة إعلان الاستقلال التي التزمت بفلسطين واحةً للحرية وللديمقراطية والتعددية والمساواة في الحقوق والواجبات. درويش كتب عن الحتمية التاريخية والحقيقة التي لا تقبل التأويل ولا تندثر مع مرور الأزمنة والحقيقة أن فلسطين حرة وأن شعبها منارة للحرية لأنه يرفض وبشكل غريزي أي تحدٍ لما خلقه الله عليه: الحرية.
لا تزال معركتنا الأساسية والمركزية مع الاحتلال الذي يسلب حقنا في الحرية بكل أشكالها وتجلياتها كل يوم ولا يزال الواجب الأول والمركزي هو فضح ممارسات الاحتلال وتعرية منطلقاته العنصرية وسياساته الإجرامية. في هذا السياق، الصحافي الفلسطيني يمثل خط الدفاع والهجوم الأول وتشكل مصداقيته الرافعة الأساسية التي ينطلق منها لينقل للعالم حقيقة ما يجري في فلسطين.
لكن الصحافي الفلسطيني لا يمكن أن يقوم بواجبه المهم هذا إذا ما كان مكبلاُ أو ملاحقاُ أو محاصراُ والحقيقة أن الوسط الصحافي اليوم يشعر بالخطر الشديد وهو في حالة دفاع مستمر عن حقة الأساسي في العمل بحرية وعدم التعرض للتحريض والشيطنة والملاحقة الأمنية.
ما يحدث من ملاحقة واعتقال وحملات تحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي مقلق ومحزن في آن واحد وهو بالدرجة الأولى يتنافى مع كل ما هو نحن كشعب وهوية.
لا يغفر للحكومة الشرعية أن مليشيات حماس تعتقل وتنكل بالزملاء الصحافيين في قطاع غزة فهي تحتجز مليوني فلسطيني رهائن منذ عشر سنوات قرباناً لمشروعها الخاص. الحكومة الفلسطينية الشرعية يفترض أنها نموذج يعكس تطلعاتنا وحقيقتنا، تلتزم بما وقعت عليه من اتفاقيات ومعاهدات دولية تحترم الإنسان وتقدس حياته وحريته وحقوقه. من يطالب بمقاربة التعديات على الحريات في الضفة الغربية وقطاع غزة لا يدرك أنه يطالب بالمقارنة وهي مقارنة في غير محلها.
واقعنا لا يليق بنا ولا يحقق أياً من أهدافنا ويلهينا جميعاً عن هدفنا الأساس وواجبنا الأول في مواجهة الاحتلال. آن الأوان لمراجعة تعيد الاعتبار لنا بالمعنى الجمعي ولكل فلسطيني بالمعنى الفردي. آن الأوان لنقاش مسؤول حول مغزى هذه الملهاة التي لا تنتج وطناً ولا تصنع الحرية.