اعترفوا أيها السادة، واحترموا عقول الناس. الأسباب التي أعلنها الناطق باسم الحكومة لتفسير اعتقال الصحفي جهاد بركات لا تمت للحقيقة بصلة، فلا ظروف تجلب الشبهة ولا ما يحزنون، وإنما هي ادعاءات صيغت على عجل، فجرى تكييف هذه التهمة الغريبة استنادا إلى قانون عقوبات أكل الدهر عليه وشرب.
والنتيجة أننا كنا في مشكلة واحدة اسمها اعتقال تعسفي أو انتهاك لحرية العمل الصحفي، فإذا نحن أمام سلسلة من المشكلات السياسية والقانونية التي تتوالد لتطرح كل أوضاعنا على طاولة البحث والتشريح، بدءا من الانتهاكات المستمرة للحريات العامة، مرورا بالبيئة القانونية التي تحكم حياتنا، وصولا للطريقة التي تقدم فيها الحكومة نفسها للشعب، ودرجة ثقة الناس في الحكومة والنظام السياسي بشكل عام.
السبب الحقيقي بسيط ومعروف، وهو أن الصحفي بركات حاول تصوير موكب رئيس الوزراء أثناء إعاقته من قبل حاجز احتلالي، ربما ظن أحدهم ( وهو مخطىء تماما في ظنه) أن هذا سيحرج الرئيس ويمس هيبته، والكل يعلم أن الحكومة والسلطة والقيادة برمتها تعمل تحت الاحتلال، وفي ظل إجراءاته وقيوده وتعسّفه الذي يطال كل جوانب حياتنا.
وقد سبق للرئيس محمود عباس نفسه أن صرح أكثر من مرة أنه لا يتحرك من مقره إلا بتنسيق وتصريح من سلطات الاحتلال، كما أن رئيس الوزراء تعرض أكثر من مرة لاستفزاز الحواجز العسكرية فتصدى لها وحظي بتعاطف قطاع واسع من المتابعين.
هيبة المسؤول الفلسطيني لا تتحقق بسهولة عمله في ظل الاحتلال، ولا من الامتيازات التي توفرها بطاقة الشخصيات المهمة جدا ( VIP )، وانما من علاقته بشعبه وارتباطه بهمومه ومشكلاته، فالحصار لم ينل من هيبة الشهيد ياسر عرفات، ولا القيود والعزل الانفرادي مسّت مكانة أحمد سعدات ومروان البرغوثي ورفاقهما في الأسر.
ثم أيّ تعسّف هذا في استخراج مواد قانونية ملتبسة من قانون أردني مضى على سنّه 57 عاما في ظل الأحكام العرفية وأنظمة الطوارىء؟ الأردن نفسه أجرى سلسلة من التعديلات الجوهرية على القانون المذكور في ظل نحو عشر دورات للبرلمان الأردني، لماذا يجري ذلك؟ ونحن نتابع أن الرئيس أصدر حتى الآن عشرات المراسيم بقانون في غياب المجلس التشريعي مع أن هذه الصلاحية مشروطة ومقيّدة بالضرورة التي لا تحتمل التأجيل، فأي ضرورة يا جهابذة القانون في بلادنا أكثر إلحاحا من تعديل قانون العقوبات سيء الصيت، أو على الأقل تنقيته من المواد التي تعود للعصور الوسطى.
ثمة مشكلة أكبر من كل ما سبق وهي الفجوة التي تتسع باستمرار بين الناس والحكومة، فالحكومة جاءت في ظروف غير اعتيادية وفي غياب المجلس التشريعي، ولم تحظ بثقة ممثلي الشعب، ومن المؤكد أن استمرار استخفاف الحكومة أو من ينطق باسمها بالناس وبوعيهم سيوٍسّع الفجوة ويطيح بما تبقى من ثقة ويضعضع أركان نظامنا السياسي، لا سيما ونحن في عين عواصف إقليمية وعالمية لا قبل لنا بها إلا إذا حصّنا بيتنا الداخلي.