الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

زياد الأسباط؛ سويدياً ! بقلم: طارق عسراوي

حكاية العدد

2017-07-12 01:20:42 AM
زياد الأسباط؛ سويدياً !
بقلم: طارق عسراوي

هي مدينته التي كُلّما هدّه الاشتياق اليها وقرر حزم حقائبه والعودة أخذته الدروب إلى مدينة أخرى، أبعد مما كان عليه - وأعني من حيث الجغرافيا-.

 

حين سكن في رام الله، كانت القدس تقع على مسافة مخيم واحد، مخيم قلنديا، وبعد سنوات ثلاث حين قرر العودة للقدس، وجد نفسه في عمان!

 

في تلك الليلة تمنى لو أنه في مقهى جابر، يشرب عصير الرمان البارد ويتقاسم خبز الحديث مع الزبائن الضجرين والفضوليين، يجلسُ أمام المقهى قرابة الساعة قبل أن يسأله النادل عن طلباته!

 

عادةً، لو حدث ذلك في مقهى آخر، كان سوف ينادي النادل غاضباً، مستثارا من عدم اكتراثه، وربما يقول له بلكنته المقدسية: " شو أخي مش معبيين عينك ! "

 

لكن في مقهى جابر يختلف الأمر، حيث للزمن ايقاعٌ شفيفٌ مثل جناحي فراشة، فهناك على بعد خطواتٍ من مصطبة المقهى، حيث الأقواسُ تظلل درجات الطريقْ، يقع بيت الحبيبة الاولى.

 

وهناك بذَرَ ساعات أيامه، مقابل نافذة شمسها، غير آبه بالكون كله، ويسقط قلبه إذا ما انسدلت ستارة نافذتها فجأةً، أو لأَحَ وجه أبيها من النافذة، تماماً مثل كلّ حكايات الحبّ في تلك الحارات القديمة، تشتعلُ الحكاية بصمتٍ وتتأجّجُ مثل قرنفلةٍ تلوِّنُ صباح الشرفات، وبصمتٍ تغرق في بئر الذاكرة.

 

صباحاً، أعد حقيبته الصغيرة واتجه إلى حاجز قلنديا، قدّم هويته للمجندة التي طلبت منه بعد أن أدخلت البيانات لجهاز الكمبيوتر أمامها التوجه للبوابة رقم " ٥ " حيث موظّف مكتب الداخلية.

 

هناك وبعد استجواب طويل وجد نفسه يحمل ايصالاً ممهوراً بختم وزارة الداخلية، يفيد أنه قد أخلّ بقوانين الإقامة وفق القانون الخاص بالفلسطينيين المقيمين بالقدس، لاقامته ثلاث سنوات في أرضٍ معادية !

 

لم يعد مقدسياً منذ تلك الحادثة، وفق قوانين الاحتلال، فالذي يسكن خارج المدينة المقدسة - من الفلسطينيين - يعتبر غائباً ويغلقون بوجهه أبواب المدينة ليمعنوا في غيابه .. وفق القانون!

 

بعد سنوات من المحاكم والسجالات القانونية في سبيل استعادة هويته، غادر إلى عمان، حيث شقيقاته يقمن، ولمّا فاضت سوريا بأهلها لمعت برأسه القدس مرّة أخرى وتذكّر كُلّما شاهد لاجئا سورياً هجرته القسريّة، وضجّت في رأسه أصوات زبائن مقهى جابر، صوت النرد، قهقهة أبو عطا غالباً، وشتيمته لحظّه التعس مغلوباً، فقرّر الركوب على موجة الهجرة إلى السويد، ومن هناك سوف يعود إلى باب الأسباط، سويدياً يشرب عصير الرمان البارد.

 

وهكذا أكّد له صديقه الذي يعمل في مكتب خدمات اللاجئين، أن لديه الحكاية والأوراق التي تمنحه لجوءاً انسانياً مضموناً، وبخلال خمس سنوات بأبعد تقدير سوف يغدو زياد السويدي!

 

في مدينة لوند الجنوبية، ركب دراجته الهوائية وتوجه إلى مركز البلدية، انه موعد استلام جواز سفره الجديد، في الطريق لمعت القدس في رأسه مجدداً، عند باب البلدية شعر بالخوف وقال في نفسه: إن قُلتُ القدس مرّة أخرى أينَ سأغدو!!

 

ولكن، لا عليك ليس هنالك أبعد من لوند عن القدس، وليس هنالك طريق أقصر للقدس من لوند!

 

أخذَ كرسياً خشبياً، جلسَ أقصى يسار المصطبه الاسمنتيّة، وضع جواز سفره ونظارته الشمسية والكاميرا على الطاولة أمامه، أتاهُ النادل سريعاً، سأله أن يحضر له عصير الرمان البارد  وقرصينِ من بائع التمريّة المجاور، نظر إلى النافذة والجنود يسيرون بالعشرات، أعلامٌ تتوسطها نجمة مسروقة متدلّية من أعمدة الانارة، لم يشعر بالاغتراب وهو يستعيد رحلته الطويلة كما يشعر الآن! ما من مكانٍ أبعد من مقعده الآن عن ذاكرته!

 

حين قال النادل لزميله: " عصير رمان بارد للسويدي اللي قاعد برّه " ودّ لو أنّه يصرخ به بلكنته الأولى، غاضباً، أنا زياد الأسباط، مش سويدي لكنَّ إحساساً هادئا يمنحه المكان لأهله العائدين بكافّة الوسائل جعله يبتسم وهو يذوبُ في حلاوة السكّر المطحون على خدّ التمريّة الساخنة.