من المعروف أن الآثار المادية التي تركها السلف للخلف في كل بلد تُقرَأ على أنها الملخص المادي لتاريخ هوية البلد وحضارته على مر العصور.
وهذه الآثار إذا أحسن أبناء البلد المحافظة عليها وصيانتها تعتبر نعمة لا تنقص وكنزاً لا ينضب، ذلك أنها تقدم للأمة خدمات جليلة في الميدان الثقافي ومساهمات غير قليلة في الميدان الاقتصادي.
وبما أن الوطن العربي قد شاءت له الأقدار أن يكون مركزاً للكثير من الحضارات ، وعلى أرضه اتصلت الأرض بالسماء عندما تتالى عليها نزولالوحي الأمين ، وتتابعت على ثراه خطىالأنبياء ، فكانت هذه البقعة من الأرض بمثابة بؤرة تشع منها أنوار الهداية ، وتتوالد فيها دوائر المعرفة التي اتسعت شيئاً فشيئاً حتى شملت أقاصي المعمورة بالثقافة والعلوم ، فإن هذا الوطن قُدِّر له أن تحمل أرضه الكثير من المعالم وأن تحتضن الكثير من الكنوز التي يطلق عليها العلماء اسم ( الآثار).
غير أن هذه النعمة كثيراً ما يقِل أثرها ، وهذا الكنز في بعض الأحيان يتلاشى ، بشكل كلي أو جزئي ، وذلك عندما يكونان عرضة للاستهداف ، سواء أكان هذا الاستهداف من قبل جهات معادية ، كما كان عليه الحال في سنوات الاستعمار الأجنبي المباشر، أو من قبل بعض أبناء الأمةالذينضل سعيهم في الحياة وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاًعندما يعملون على إفناء هذه الكنوز بتدميرها بشمل كلي أو جزئي ، أو عندما يعمل تجار الظلام الدامس على استنزافها وقد بهرهم وأسرهم بريق المال ، حتىغرر بهم فأغراهمبتصدير شواهد تراثهم ورموز حضارتهم وعناوين تاريخهم إلى مختلف البلدان.
وفي فلسطين ، وهي الأرض التي تعتبر متحفاً تاريخياً وحضارياً عظيماً ، للأسباب التي يعرفها الجميع ، لم يكن الحال بأفضل مما هو عليه في البلدان العربية الأخرى ، بل لربما كان الأمر أكثر سوءاً ، ذلك أن هذه الأرض المقدسة التي سلمها المستعمر الظالم إلى المحتل الغاشم الذي لبس ثوب الدين وارتدى عباءة الثقافة كان من نصيبها أن يكون سلاح الآثار جزءاً من المعركة ، وكذلك التراث الثقافي ، ولذلك عمد المحتلون على السيطرة على ما يمكن السيطرة عليه من آثارها غير المنقولة ، كما عمدوا إلى استنزاف ما يمكن استنزافه من قطعها الأثرية بقوة السلاح حيناً ، وبتأثير المال في أصحاب النفوس المريضة ، تجار الظلام الدامس أحياناً.
ولهذا ، فإن السهم الذي يوجهه هؤلاء التجار إلى البلاد من خلال تجارتهم السوداء هو أشدّ ، وجرحهم في جسدها هو أعمق ، وهذا ما يتطلب وقفة جادة من أبناء فلسطين ، كما هو الحال بالنسبة للبلاد العربية الأخرى.
وفي رأيي أن محاربة هذه الظاهرة ، أي استنزاف الآثار ، وبيعها لكل من بيده المال ، يجب أن يسير في مسارين : رسمي وشعبي .
بالنسبة للمسار الرسمي ، يجب أن يكون بتوجهين : توجه نحو الخارج ، لإعادة ما سُرق أو هُرّب من خلال هذه التجارة غير المشروعة ، ويمكن ــ كما أعتق ـ الاستعانة باليونسكو والمؤسسات الدولية ذات العلاقة بهذا الشأن ، أما التوجه الثاني ، فيتمثل في زيادة الحرص على الحد من هذه الظاهرة والقضاء عليها من خلال تشديد الرقابة على المواقع الأثرية ، وبضمن ذلك العمل على إيجاد آلية لمراقبة المواقع التي تقع تحت السيطرة المباشرة للاحتلال ، هذا بالإضافة إلى تتبع هؤلاء ( التجار) ، وتضييق الخناق عليهم ، وتقديمهم إلى القضاء وإيقاع العقوبات المغلظة بحقهم وفق الأصول.
وأما المسار الشعبي ، وهو المسار الذي يجب أن يكون داعماً للمسار الرسمي ومسانداً له ، فيتمثل في انخراط أكبر عدد ممكن من الأفراد والمؤسسات الثقافية والتعليمية والاقتصادية ذات العلاقة في عملية مقاومة هذه الظاهرة ، وذلك من خلال توظيف المنابر المختلفة ـ
بما فيها منابر المساجد ودور العبادة ـ لتوعية الناس بمخاطر استنزاف الآثار ، ووضع كل فرد في المجتمع أمام مسؤوليته في مقاومة هذه التجارة السوداء.
إن كل قطعة تقطُرُ من جرح كنزنا الأثري النازف تعتبر خسارة عظيمة لا تعوّض ، فلذلك يجب علينا جميعاً أن نتعاون ونتكاتف لكي نصون هذا الكنز الحضاري الذي تركه لنا الأجداد ، حتى لا نضطر ذات يوم إلى أن نشد الرحال إلى أقطار المعمورة ونشتري التذاكر على أبواب متاحفهاـ إذا أُذِن لنا بالدخول ـ لكي نرى بضعة من تاريخ أجدادنا وحضارتهم!