من النافذة
بقلم عبد الفتاح القلقيلي
كل المدارس تجمع على أن التاريخ والجغرافيا علم واحد هو “الاجتماعيات”، وأنا مع هذا الجمع إذ هما يبحثان في المجتمع من حيث “الزمان والمكان”، ولكن مسيرة الحياة تشكل صراعاً دائماً بينهما، وربما ذلك يعبر عن قانون “الوحدة والصراع” في الماركسية.
ومن الطرائف التي تحضرني في هذا المجال أن أحد طلاب علم الاجتماع في إحدى الجامعات الفلسطينية أصر أن يكون مشروع تخرجه بعنوان “هل هو علم اجتماع أم علم افتراق؟”. ويخلص إلى القول أنه علم الافتراق لأنه يبحث في انقسام “المجتمع” إلى طوائف وطبقات وشرائح وفئات.
وأنا من نافذتي هذه أرقب الصراع بين تاريخ المجموعات البشرية وجغرافيتها، فمنذ أواخر القرن الثامن عشر بدأ حراك القوميات، واتضح هذا الحراك في القرن التاسع عشر، ووصل ذروته في القرن العشرين، وما الحروب الأوروبية وحركة الاستعمار الأوروبي لمناطق إفريقية وآسيوية إلا ترجمة لحراك القومية، في القرن التاسع عشر. كما أن الحركات العنصرية والحروب العالمية هي التعبير عن اشتطات القومية في القرن العشرين، الذي شهد، أيضاً، استيقاظ القوميات المقهورة بصيغة حركات تحرير.
كان كارل ماركس (1818- 1883) قد فسر تاريخ المجتمعات بأنه صراع بين الطبقات (صراع اقتصادي) وبذلك مرت المجتمعات بمراحلها الخمس: الشيوعية البدائية، فالعبودية، فالإقطاع، فالرأسمالية، فالشيوعية العلمية. وكان ماكس فيبر (1864- 1920) قد فسر تاريخ المجتمعات بأنه صراع على السلطة، حتى أنه رأى أن الخلاف بين الزوجين في الأسرة الواحدة هو تمظهر للصراع على السلطة.
رغم احترامي لهذين العالمين، وتقديري لصحة رؤيتيهما وتفسيريهما للتاريخ، إلا أنني أرى من نافذتي هذه أن مسيرة التاريخ كانت في إحدى تجلياتها: من امبراطوريات (ذات قوميات متعددة) إلى دول قومية (أي انقسام الامبراطوريات حسب القوميات المكونة لها، وتجمع القومية المشتتة في عدة دول، تجمعها في دولة واحدة) إلى دول وطنية، أي من التاريخ إلى الجغرافيا. أو من القومية إلى الأيدلوجيا إلى الجنسية. وهو ما أطلق عليه في أواخر القرن العشرين مصطلح “الهستو غرافيا”:
كان الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية حريصين على الادعاء أن الخلاف بينهما أيدلوجي، ولكن جوهره كان جغرافياً. ومناوشات الحدود بينهما عام 1969 تؤيد ذلك.
غزو فياتنام لكمبوديا في ديسمبر 1978 كان أول حرب تقليدية يشنها نظام ثوري ماركسي ذو حيّز جغرافي محدد (جنسية) على نظير له ذي حيّز جغرافي (جنسية) آخر.
حرب الحدود الصينية الفياتنامية في فبراير 1978 تعتبر تأكيداً على أن دعم الصين لفياتنام سابقاً كانت نوعاً من الدفاع الإقليمي (الجغرافي) ضد أمريكا، أكثر منه صراعاً بين الاشتراكية والرأسمالية.
الصراع السوري العراقي الحاد جداً يمكن اعتباره تعبيراً عن عبثية القومية والأيدلوجيا، خاصة لشدة العداوة بين النظامين الجغرافيين السياسيين (في زمن صدام حسين وحافظ الأسد) رغم أن كلاهما محكوم بحزب البعث صاحب شعار “وحدة وحرية واشتراكية”. ورغم أنهما يعتبران الحدود بينهما من صنع الاستعمار الأوروبي (اتفاقية سايكس- بيكو). هنالك لافتة ضخمة فوق مركز الحدود السوري تقول “البعث تمرد على الحدود”، ورغم ذلك هنالك تعليمات رسمية لأجهزة الأمن السورية تقول “أي جواز سفر عليه ختم دخول لإسرائيل أو للعراق سيتعرض حامله للتحقيق، وغالباً ما تكون النتيجة الطرد أو السجن”.
وهنا نستعيد قول جورج طرابيشي أن “النظرية القومية التقليدية، التي اطمأنت إلى ثبات عوامل اللغة والثقافة والتاريخ المشترك، وافترضت أن الدول القطرية محض كيانات “كرتونية” مرشحة للتداعي والانهيار، تقف اليوم عاجزة أمام مشهد “تقومن” هذه الكيانات القطرية كما أمام مشهد “تقطير” اللغة القومية والثقافة القومية والتاريخ القومي”.
الصراع بين الجزائر والمغرب لا يمكن اعتباره إلا صراعاً جغرافياً مجرداً من القومية أو الأيدلوجية.
ملاحظة: أنصح بقراءة كتاب “الجماعات المتخيلة” للكاتب “بندك أندرسن” تقديم عزمي بشارة، إصدار دار دقمس للطباعة والنشر في دمشق. وكتاب “الدولة القطرية والنظرية القومية” للمفكر جورج طرابيشي، وإصدار دار الطليعة في بيروت.