الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

زيارة البابا... رسائل عديدة

2014-05-27 00:00:00
زيارة البابا... رسائل عديدة
صورة ارشيفية

مقال رئيس التحرير

بقلم: سامي سرحان

حملت زيارة قداسة البابا فرانسيس الأول لفلسطين إشارات ودلالات ورسائل كثيرة وهي وإن كانت زيارة دينية وسياحية كما أعلنت أوساط الفاتيكان فهي أيضاً زيارة سياسية بامتياز، فالأرض المقدسة “فلسطين” لم تعد أرضاً لحج المؤمنين من الديانات السماوية الثلاث فقط وإنما هي أرض عبثت بها السياسات الدولية وأقامت عليها كياناً غاصباً شرد أهلها من مسلمين ومسيحيين واحتل في حروب متتالية أرض شعبها ويسعى إلى تهويدها وطمس معالم حضارتها وباتت القدس عاصمة أبدية له يهجر مسلميها ومسيحيها ويعزلها عن محيطها هي وشقيقتها في العقيدة المسيحية والوطن بيت لحم.

وفي ضوء كل ذلك يمكن قراءة كل حركة للبابا وتفسيرها بمنطق السياسة التي لا ترحم، وقد تحمل الأشياء ما لم تحتمل، والرسالة الأولى لزيارة الحبر الأعظم أن فلسطين (الأرض المقدسة) كانت وجهته الأولى بعد تقلده الكرسي البابوي... فمحطته في الأردن كانت ممراً إجبارياً لبيت لحم مولد المسيح، ومحطته في مطار تل أبيب كانت ممراً إجبارياً للقدس الشرقية المحتلة حيث القيامة.

لم تكن الزيارة لإسرائيل، ولم يشأ أن يستخدم أجواءها للوصول إلى بيت لحم أو القدس ومغادرته من بيت لحم إلى تل أبيب جواً واستقبال الرئيس عباس له في بيت لحم ووداعه له منها، دلالة على أن البابا يعترف بالسيادة الفلسطينية على أجواء الضفة الغربية والأرض المتاحة اليوم للفلسطينيين.

الرسالة الثانية، من الزيارة أن الابتسامة، والرضا لم يفارقا وجه الحبر الأعظم في لقاءاته وصلواته في بيت لحم وهو ما لم نلاحظه في وجهه وهو يصافح مستقبليه في مطار تل أبيب ويحتضن بعضهم. وفي ذلك إشارة إلى حب قداسته لشعب فلسطين المعذب المشرد من وطنه في وطنه. كما في ذلك إشارة إلى الجانب الآخر الذي أخضع زيارة البابا لفلسطين لابتزازه وتحويل جزء منها لزيارة إسرائيل ووضع أكاليل من الزهور على رموز الصهيونية كقبر هرتزل وياد فاشيم.

الرسالة الثالثة جولته القصيرة بسيارته البسيطة المكشوفة في شوارع بيت لحم ومروره على ثلاث مخيمات للاجئين تحيط بمدينة ميلاد المسيح عايدة وبيت جبرين (العزة) والدهيشة تذكيراً لأكثر من مليار مسيحي بمأساة هؤلاء اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم وبيوتهم التي هجروا منها وتعاطفه مع معاناة أطفال هذه المخيمات وحثهم على الجد والاجتهاد والعمل للوصول إلى مبتغاهم. 

والرسالة الثالثة، وكانت مفاجأة من العيار تمثلت بترجل قداسة الحبر الأعظم من سيارته عند قبة راحيل حيث جدار الضم والتوسع وملامسته الجدار وتلاوة بعض الصلوات. وبملامسته الجدار تلمس معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي الذي يقيم جدراناً من الحقد والكراهية بينه وبين جيرانه بدل أن يقيم جسوراً من التسامح والمحبة، كانت هذه الوقفة دليلاً على شجاعة الضيف الكبير وأنه لم يأت للحج والسياحة فقط، وإنما ليقف على عذابات شعب امتدت نكبته لأكثر من 66 عاماً وآن لها أن تنتهي. لن ينس العالم الذي تابع تفاصيل الزيارة لحظة بلحظة تفاصيل هذه الرسالة أبداً ويجب أن يخلد مكان وقوف البابا عند الجدار بنصب تذكاري، وهذه مهمة رئيسة بلدية بيت لحم التي أثبتت حضوراً مميزاً في هذه الزيارة. 

والرسالة الرابعة في هذه الزيارة (الحج)، لقاء بابا الفاتيكان مع البطريرك المسكوني للكنيسة الشرقية (بارتلمواس) في كنيسة القيامة في القدس بعد خمسن عاماً على لقاء البابا الراحل بولس السادس والبطريرك اثيناغورس. 

والاجتماع يدلل على مركزية وعالمية مدينة القدس لكل الأديان والشعوب. وإذا كانت المسيحية قد نبعت من أرض فلسطين من بيت لحم والقدس والناصرة واحدة موحدة، فإنها بحاجة اليوم إلى إعادة هذه الوحدة والمصالحة على صعيد الجوهر بالإيمان بالمسيح وعلى صعيد الأمور الإدارية. وهو ما يعيد للقدس أهميتها ولأصحاب الديانات الإسلامية والمسيحية حقوقهم في مدينته المقدسة. وهو ما دعا إليه البابا وأكده الرئيس أبو مازن حول عالمية القدس لكل الأديان والحضارات الإنسانية. 

والرسالة الخامسة هذا الحشد الكبير من الكاردينالات والبطاركة والمطارنة من الدول العربية الشقيقة، والعراق والأردن ولبنان وتونس، والحجاج من القارات الخمس ومن فلسطين الذي يذكرنا بمكانة فلسطين ومركزيتها وقدسية أرضها ومدنها بيت لحم والقدس وأنها بحاجة إلى وقفة تضامن مع شعبها وكسر الحصار المفروض عليه من الاحتلال، ولعل أبرز ما تركز عليه الاهتمام بين الكرادلة والبطاركة زيارة الكاردينال بشارة الراعي بطريرك انطاكية وسائر المشرق وبطريرك الكنيسة المارونية الذي تعرض لضغوط شديدة لثنيه عن زيارة فلسطين والأرض المقدسة ولكنه أصر على هذه الزيارة مؤكداً أن زيارة السجين لا تعني زيارة السجان، ولهذا استحق الكاردينال الراعي وسام نجمة القدس. 

إن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى كسر الحصار المفروض عليه واختار الراعي أن يقف إلى جانب خيارات الشعب الفلسطيني وقيادته في المحافظة على الثوابت الفلسطينية والحقوق المشروعة له في دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية وحق اللاجئين في العودة، وأحيت زيارة الكاردينال الراعي الذي جاء إلى فلسطين أيضاً ليكون في استقبال البابا ولم يكن ضمن الوفد البابوي، أحيت قضية قريتي أقرت وكفربرعم في الجليل الأعلى حيث هجر أهلها من القريتين وهم اليوم يعيشون لاجئين على بعد قريب منهما ولم يتبق من القريتين سوى كنيسة أقرت، وسيقيم الكاردينال الراعي قداسا ًغداً الأربعاء في الكنيسة المتبقية.

عودة أهالي أقرت وكفر برعم، هو أمل أحيته زيارة الراعي بعد أن كان مسموحاً لهم أن يعودوا إليها أمواتاً ليدفنوا في مقبرة القرية. هذه هي دولة إسرائيل التي تدعي الديموقراطية والحرية الدينية وهذا هو تعاملها مع أصحاب البيت والأرض.

والرسالة السادسة وهي رسالة سياسية بامتياز أيضاً هي توجيه البابا الدعوة للرئيس أبو مازن وللرئيس شمعون بيرس للقاء في بيته المتواضع في الفاتيكان للصلوات والدعاء من أجل السلام في الأرض المقدسة. وكان اللافت أن الموافقة جاءت سريعة من مكتب الرئيس أبو مازن والرئيس بيرس على الدعوة وحدد موعدها في السادس من حزيران القادم. وفي ذلك إشارة إلى أن الفاتيكان يسعى للقيام بدور لم يسع إليه الباباوات السابقين في إحلال السلام في الأرض المقدسة. 

والرسالة السابعة، أن البابا فرنسيس يقف على تطورات  الصراع في الشرق الأوسط ويتابع مواقف الأطراف من المفاوضات. ولم يتردد في قول الحقيقة أو يخشى من قولها فقد خص الرئيس أبو مازن بالثناء ووصفه برجل السلام. وفي الوقت نفسه “داعياً” إسرائيل إلى أنه آن الأوان لوضع حد لهذه المأساة غير المقبولة ووجوب مواصلة المبادرات والمثابرة للوصول إلى حل يكون قائماً على العدل واحترام حقوق الآخرين ويتمثل في حل الدولتين وحق كل دولة في العيش جنباً إلى جنب في حدود معترف بها.

لقد أحيا البابا بزيارته للأرض المقدسة الأمل لدى المسيحيين في العالم أن يجدوا طريقهم إلى القدس وبيت لحم بعد أن طمس الإعلام الغربي الصهيوني قدسيتها المسيحية وألغى أرض حجهم وصورها مملكة لنتنياهو والمتطرفين من المستوطنين. شكراً لقداسة البابا على زيارته.