الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"حروب إسرائيل الجديدة.. أُمَّةٌ باللِّباسِ العسكري.. رؤيةٌ من الدَّاخل" بقلم: رائد دحبور

2017-07-24 09:22:58 AM
رائد دحبور

حروبُ إسرائيل الجديدة، هو عنوانُ كتابٍ صدرَ عام 2012 لـ " أوري بن إليعازر " الَّذي يعملُ محاضراً في قسمِ علم الاجتماع  والأنثروبولوجيا – الدِّراسات الإنسانيَّة – في جامعةِ حيفا.

 

كنتُ قد قرأتُ كتاب بن إليعازر – حروب إسرائيل الجديدة – قبلَ مدَّة ليست طويلة نسبيَّاً، ومع اندلاع أحداث الأقصى الأخيرة أعدتُ القراءَةَ المُتَمَعِّنَة مُجَدّداً في هذا الكتاب، وهو كتابٌ ضخمٌ – يقع في ستمائة صفحة، ويستند إلى مئات المراجع والمصادر ويُراجع الكثير من الوقائع والمجريات المتسلسلة والمتشابكة من حيث الأسباب والنَّتائج، وهو يقتبِسُ كثيراً من تصريحات وخطابات رؤساء الحكومات الإسرائيليَّة المتعاقبة، وكذلك كثيراً من خطابات وتصريحات وآراء ومواقف رؤساء الأركان المتعاقبين وبما في ذلك تصريحات وخطابات ومداخلات قادة المناطق العسكريَّة وخطابات زعماء المستوطنين وقادة معسكر المتدينين ومقالاتٍ في صحيفة " نيكودا " النَّاطقة بلسان مجلس المستوطنات في الضِّفة الغربيَّة

 

وكذلك مقالات الضُّباط في الصحيفة النَّاطقة بلسان الجيش، وكثيراً جدَّاً من مادَّة الجدل الدَّائر في أوساط ثالوث السياسة والجيش والمجتمع في إسرائيل، بما في ذلك كثيراً من مادَّة النِّقاش الَّتي دارت في الكنيست بين أقطاب الحكومة والمعارضة في مَقْلَبَيّ المشهد من يمينٍ ويسار عبر سنواتٍ طويلة من المداورة في مقاعد الحكومة والمعارضة.

 

وهو كتابٌ مهم جدَّاً؛ إذْ يُقدِّمُ تفسيراً سيوسيولوجِيَّاً تاريخيَّاً موضوعيَّاً للعلائق القائمة والمتحوِّلة داخل المجتمع الإسرائيلي في مستويات السِّياسة والعسكرة والاقتصاد وعوامل الثَّقافة السَّائدة، وخريطة القوى الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والدِّينيَّة المتحوِّلة على نحوٍ يمينيٍّ أكثر مع مرور الزَّمن بما في ذلك – وبطبيعة الحال – تزايد تأثير مجتمع المستوطنين في الضِّفة الغربيَّة، والحريديم المتديِّنين في تحديد منحى السياسات الحكومية والأمنيَّة، إذْ يتتبَّع تغلغلهم بشكلٍ مُضطّرِدٍ وكثيف في المؤسَّسة العسكريَّة وفي الجيش خلال العقدين الماضِيَيْن.

 

ربَّما لا يتَّسِعُ المجال للاقتباس من الكتاب في ثنايا مقال، لأنَّ معظم مادَّته جديرة بالاقتباس، لما تحويه من كثافةٍ ومدلولاتٍ عميقة وشاملة لجهةِ تكوينِ رؤية متكاملة في رصدِ جملةٍ من التَّحوُّلات المهمَّة في مُركَّبِ ثالوث السياسة والجيش والمجتمع في إسرائيل؛ لذا سنكتفي هنا بمناقشةِ بعض الأفكار من بين أفكارٍ كثيرة جدَّاً يطرحها الكتاب.

 

يرُكِّزُ بن إليعازر في أبحاثه الكثيرة ومؤلَّفاتِه على سوسيولوجيا الحرب – بمعنى جملة القواعد والنُّظم وعوامل ومكوِّنات الثَّقافة الاجتماعيَّة المتَّصلة بتشكيل وجهة النَّظر والقناعات تجاه وظيفة وهدف الحروب، وتحديداً في إسرائيل – وهو يُرَكِّزُ في كتابه على تفسيرِ العلاقة بين ثالوث السِّياسة والجيش والمجتمع في إسرائيل في سياقٍ تاريخيٍّ مُتَّصلٍ بجملةِ التَّغيُّرات الَّتي اعترت المجتمع الإسرائيلي منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948 وحتَّى عام 2012 على الأقل، وهو يرصد كثيراً من التَّحوَّلات في المفاهيم الخاصَّة بعلاقةِ ثالوث السياسة والجيش والمجتمع في بيئة التَّغيُّرات والتَّحوُّلات التي واكبت عصر ما بعد انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيَّات القرن العشرين، ودخول العالم بما فيه إسرائيل عصر العولمة أو ما يُطلِقُ عليه تعبير عصر " النّيو - ليبراليَّة " بمعنى اللِّيبراليَّة الجديدة، أو عصر ما بعد الحداثة، وتأثير أفكار وتطبيقات هذا العصر الجديد على مفهوم " الأُمَّة بِلِبَاسٍ عسكريّ " والَّذي كان على الدَّوام، سِمَةً أساسيَّة من سِماتِ المجتمع الإسرائيلي، وكيف أثَّرَ ذلك في انبثاق مفهوم حروب إسرائيل الجديدة ضد الفلسطينيين واللبنانيين، والمختلفة عن حروبها التَّقليديَّة السَّابقة ضد الجيوش العربيَّة، ويعطي أمثلة على ذلك بنمط الحروب الَّتي أدارتها إسرائيل في نهاية الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى ضد الفلسطينيين في الضِّفة الغربية وقطاع غزَّة، وضد لبنان في عام 93 أثناء عملية حساب وعقاب في عهد إسحق رابين، وأثناء عملية عناقيد الغضب في عهد شمعون بيريس عام 96، مروراً بأحداث النَّفق في عهد بنيامين نتنياهو عام 97 وبالانتفاضة الفلسطينيَّة الثَّانية في عهدِ كلٍّ من إيهود باراك وإرئيل شارون، ومن ثمَّ حرب لبنان ضد حزب الله عام 2006 والحروب على غزَّة في عهد إيهود أولمرت.

 

كما أنَّه يتناول سياسات ورؤى رؤساء الأركان المختلفين والمتعاقبين وكذلك قادة المناطق الجنوبيَّة والوسطى والشَّماليَّة والعديد من الضُّباط رفيعي المستوى خلال مجمل تلك المراحل والفترات، ومدى تأثيرهم في رسم سياسات الحكومات الإسرائيليَّة، وفي صياغة السياسة العسكريَّة للجيش الإسرائيلي، وفي صياغة ورسم سياسات وأهداف الحروب التي جرت في عهودِهم. وبالتَّالي مقدار وعمق تأثير الجيش في رسم سياسات الحكومات الإسرائيليَّة سلماً وحرباً.

 

ويرى بن إليعازر – ومن وجهة نظر تحليليَّة سوسيولوجيَّة أكاديميَّة تاريخيَّة مُجرَّدة -  أنَّ جملةً من الأسباب، بما فيها الاعتبارات التي أملتها مرحلة محادثات السَّلام والتَّسويات – خصوصاً تفاهمات أوسلو – وما أعقبها من تعثُّرٍ وفشل ومن أحداثِ سنواتٍ دامية قد أفضى في نهاية المطاف وتحديداً في ما يتعلَّق بسياسة وبحروب إسرائيل ضد الفلسطينيين  إلى ما يعتبره " الطَّريق الثَّالث الَّذي " اختارته إسرائيل كبديلٍ عن سياساتها وحروبها التَّقليديَّة الشَّاملة 

 

وكبديلٍ عن خيارات الانفصال عن المناطق المحتلة، وكبديلٍ عن خيار ضَمِّ المناطق المحتلة إليها؛ وكبديلٍ أيضاً عن القبول العملي والواقعي بحلِّ الدَّولتين كما هو مطروح؛ فهذا الخيار أو الطَّريق الثَّالث يجمع بين الانفصال عن الفلسطينيين، من جانب، عبر ما تمخَّضت عنه تفاهمات أوسلو وما تلاها من تفاهمات مع الجانب الفلسطيني، وما قد فرضته إسرائيل من وقائع بعد الانتفاضة الثَّانية، ويفصل بين الضِّفة الغربية وقطاع غزَّة، من جانبٍ ثانٍ، ويفصل الفلسطينيين عن المستوطنين ويربط المستوطنين واقعيَّاً وعمليَّاً في ذات الوقت بإسرائيل من جانبٍ آخر، ضمن ديناميكيَّة مفهوم حروب إسرائيل الجديدة ضد الفلسطينيين، التي تستخدم الجيش في خدمة السياسة وتستخدم السياسة في خدمة أهداف الجيش والأمن.

 

ويأتي ذلك ضمن استخدام نظريَّة حربيَّة إسرائيليَّة جديدة أُطلِقَ عليها اسم " نظريَّة الوعي والإنهاك " بمعنى الحرب على الوعي الجَمْعي بما يفقده الثِّقة والإيمان بتحقيق أيِّ انتصار أو إنجازٍ على القوَّة المتفوِّقة، وذلك من خلالِ استخدام أدوات وإمكاناتِ ومفاعيل القوَّة والتَّفَوُّق التكنولوجيَّ على نحوٍ استباقيٍّ كثيفٍ ومركَّزْ، وإلحاق الهزيمة بالوعي الجمعي كهدَفٍ استراتيجيٍّ شامل عبر ضرب الأهداف الميدانيَّة المباشرة في ساحة المواجهة، ولأنَّ الهزيمة وفق هذه النَّظريَّة تبدأ بهزيمة الوعي فلا بُدَّ من كَيِّهِ بوسائل إظهار التَّفَوُّق الطَّاغي في ميادين المواجهة إذا حصَلتْ والتَّلويح باستخدامها بشكلٍ مركَّز وبلا قيود كتهديدٍ يُوضَع على أيِّ طاولةِ مفاوضاتٍ في مضمار السِّياسة بين المتحاورين من طرفي الصِّراع، وفي سبيلِ خدمة وتنفيذ هذه النَّظريَّة تمَّ حصار ياسر عرفات في المقاطعة، وتمَّ استهداف المجتمع المدني الفلسطيني في الانتفاضة الثَّانية وفي الحروب على غزَّة، وفي كلِّ الحروب التي شُنَّتْ على لبنان. بحسب ما يشرح ذلك تفصيلاً بن إليعازر في كتابه.

 

وقد قام على صياغة هذه النَّظريَّة مجموعة من رؤساء الأركان وقادة المناطق العسكريَّة في نهاية التِّسعينيَّات  ومع بدءِ الانتفاضة الثَّانية – وفي غمرة النِّقاش والخلاف حول تفاهمات أوسلو بين الجيش والأوساط السياسيَّة - ومن بين أؤلئك رؤساء أركان كأمنون ليفكين شاحاك وموشيه بوغي يعلون، وقادة مناطق كإسحق إيتان قائد المنطقة الوسطى و غادي آيزينكوت قائد المنطقة الشَّماليَّة.. وقد انطلقت تلك النَّظريَّة من المقولة التَّاليَة: إنَّ الخيار الوحيد المُتاح أمام الخصم ينبغي أنْ يكون فقط ما نفرِضْهُ نحنُ من اختيارٍ أمامه.

 

في سياقِ رصده للتحوُّلات الَّتي انبثق عنها مفهومٌ جديدٌ للعَسْكْرَة والحرب في إسرائيل مع مطلع التِّسعينيَّات يتناول الكتاب مفهوم  " جيشٌ صغيرٌ وذكيّْ " كنمطٍ من أنماط حروب إسرائيل الجديدة، وما جرَّه ذلك المفهوم من جدلٍ وتداعيات على بنية وتوجُّهات الجيش الإسرائيلي وكيف كان له تأثيرٌ متباين على مفهوم وبنية " المُجْتَمع المُعَسْكَر أو الأمَّة بلباسٍ عسكريّ " داخل إسرائيل.

 

"فجيشٌ صغيرٌ وذكيّ " هي رؤية كان قد قدَّمها وسارَ في ركابها رئيس الأركان " إيهود باراك " لدى تسلِّمه منصب رئيس الأركان عام  1991 –  مُتأثِّراً بأنماط الحروب الأمريكيَّة الجديدة الماثلة في حرب الخليج الأولى ضدّ العراق، بحيث تمَّ التَّركيز في تلك المرحلة ووفق رؤية باراك على إطلاق القمر الصِّناعي " أوفيك " وعلى حرب الأزرار والأسلحة الذَّكيَّة، والاعتماد على طائرات الأباتشي كرديفٍ أساسيٍّ وكبديل في نفس الوقت عن استخدامٍ واسع لقوَّات المشاة على الأرض، وزيادة الاعتماد على الطَّائرات بدون طيَّار، وإدارة الميدان عبر شاشات البلازما الضَّخمة وعبر أنظمة المراقبة والتَّحكُّم التكنولوجيَّة الفائقة، وكل هذه الوسائل قد تمَّ استخدامها في حروب إسرائيل الجديدة في الانتفاضة الثَّانية وفي حرب لبنان الثانية وفي الحروب ضد قطاع غزَّة -  وقد كان أحد أهداف استخدام تلك الوسائل وتحويل الجيش الإسرائيلي إلى جيشٍ صغيرٍ وذكيّ هو تقليصٍ المخصصات الماليَّة المرصودة للجيش والأمن في ميزانيَّة وزارة الماليَّة، وتقليصٍ في برامج الخدمة الإلزاميَّة؛ تماهيِاً مع عصر العولمة وعصر النيو – ليبراليَّة واتِّساقاً مع ما تفرضه رؤية أنماط الحروب غير التَّقليديَّة القديمة من جيوشٍ ضخمة وكمٍّ هائلٍ من المعدَّات والأسلحة البريَّة.

 

وقد كان من النتائج الجانبيَّة الجديدة لهذه السِّياسة العسكريَّة الجديدة عزوفُ قطاعاتٍ من المجتمع العلماني عن الجيش وانحسار الإيمان قليلاً بمفهوم المجتمع المُعْسْكَرْ أو الأمَّة بلباسٍ عسكريٍّ في ظلِّ شيوع الثَّقافة النيو- ليبراليَّة الآخذة بالانتشار في أو ساطٍ وقطاعاتٍ واسعة من المجتمع الإسرائيلي.

 

لكنَّ ذلك كان لصالح زيادة نفوذ الحاريديم المتدينين والمستوطنين والأوساط المرتبطة بهم في المؤسسة العسكريَّة وقد أدّى ذلك إلى زيادة أصوليَّة الجيش الإسرائيليَ – بحسب بن إليعازر.

 

وفي سياقِ ذلك يرصدُ " بن إليعازر " ويُسجِّلُ في كتابه ذلك الجدل الصَّاخب الَّذي قادته واطَّلعت به المؤسسة العسكريَّة ومجموعاتٍ من أبرز ضبَّاط الجيش في سبيلِ تغييرِ هذه التَّوجُّهات، مُسْتَهْدِفَةً ضرورة العودة إلى التَّركيز على بقاء مفهوم الأمَّة بلباسٍ عسكريّ سائداً كسمةٍ دائمة وأصيلة لا نقاشَ حولها في المجتمع الإسرائيلي، وهو يرصدُ الجدل الذي قاده مجموعة كبيرة من الضُّباط رفيعي المستوى ضد سياسة مناقشة أجور العاملين في الجيش من قبل وزارة المالية، ومناقشة تكاليف جودة الخدمات العسكريَّة بهدف تخفيضها

 

تلك المحاولات التي جرت في عهد حكومة نتنياهو الأولى نهاية التِّسعينيَّات، وكيف تقاطعت مصلحة هذه الأوساط من العسكريين والضُّباط مع مجتمع المستوطنين وقادة معسكر المتديِّنين في هذا المجال؛ فبرغم ما رأته الأوساط السِّياسيَّة وأوساط رفيعة لكن قليلة في الجيش من ضرورة مواكبة التحوُّلات التي فرضتها معايير التسوية السياسية مع الفلسطينيين والدول العربيَّة من جانب وكذلك معايير التحولات العالمية في مفاهيم الحروب وحجم ودور الجيوش في عصر العولمة من ضرورة تقليص ميزانيَّات الأمن والتَّحول أكثر إلى المجتمع المدني بدل المجتمع العسكريتاري؛ إلَّا أنَّ وجهة النَّظر هذه ووجهت بمعارضة قويَّة وشديدة من أوساطٍ مُتنفِّذةٍ في كلٍّ من الجيش ومعسكريِّ المتدينين والمستوطنين .

 

وقد فرض ذلك - وبحسب بن إليعازر – وبتأثيرٍ من تلك الأوساط مفاهيم حروب إسرائيل الجديدة، التي ينبغي أنْ تُدار ضدَّ الفلسطينيين بشكلٍ خاص كضرورةٍ وحاجةٍ وآليَّةٍ تستدعي بقاءَ الأمن الذي يستند إلى الجيش في سلَّمِ الأولويَّات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وفي سبيلِ أن يبقى الجيش  – وكما كان طوال عمر إسرائيل – يمثِّلُ للعاملين فيه ولضُبَّاطِه رفيعي المستوى مدخلاً وتذكرة عبور للحياة السِّياسيَّة، ولنيل المكانة الاجتماعيَّة الرَّفيعة، وحتَّى مدخلاً لعالم الاقتصاد والمال والأعمال.