الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

(اليد الأخرى لجبرا ابراهيم جبرا) بقلم القاص: ناصر الريماوي

قصة قصيرة

2017-07-24 09:48:30 AM
(اليد الأخرى لجبرا ابراهيم جبرا)
بقلم القاص: ناصر الريماوي
ناصر الريماوي

كنتُ لا أزال في قعر البئر، البئر الأولى.
استدرجني إلى حافتها «جبرا» ذات ميلاد عاصف
 في بيت لحم، تركني أصغي لوقع أجراس الكنائس في العتمة، حتى سقطت. كنت أراه وهو يطل من فوق التلال الخضراء الكثيفة، ويرسل بصره متشفيا بنشوة البحث نحو البحيرات والسهول الشاسعة، المترامية فوق جنة الدنيا في ربوع الريف الانجليزي، مأخوذا بالتداعيات نحو قصائد «وليم وردرورث» ولا يأبه للبئر.
 

انتشلني، فوجدت نفسي تحت شجرة كاليبتوس ظليلة كانت تحدق بنا عند الطرف المقابل لشارع الأميرات في حي المنصور، ببغداد.
 

رأيت «جبرا» يومها يخف السير نحو مضمار الخيول الفسيح، يطل على بغداد الجديدة من هناك، ويفكر، ربما كان يفكر في قصة أو رواية، وكان يقف بغليونه المتأجج بالتبغ على بعد خطوات مني، ظل يرنو حتى أوشك أن يغفو، ناديته، لم يجب، كان لا يراني. صحت بأنني ما زلت في قعر البئر، بئر سيرته الأولى .

 

انتشلتني يد أخرى لم تكن لجبرا، وكان كل شيء قد تضاءل أو تبدل، تغير كل شيء مع الوقت، بين قعر البئر الذي لم يعد بمقدار قعر غليون «جبرا»، ورحابة الدنيا.
 
حتى جبرا نفسه.. كان قد تغير.


( عبدالرحمن منيف والقحط لمرة أخرى)

كنتُ أطوي الصفحة الأخيرة، حول تلك «النهايات» القاحلة، وأخرج، حين التقاني.
أقنعني بعد جدل عميق، بأن انهمار الماء في الميادين تصرُّف ساذج، ومستفز للمطر. «السبع بحرات» و»ساحة الأمويين» تثقلان كاهل الغيم.. وبأنه لا جدوى مطلقاً، من اصطحاب النهر معنا: «سوف تزدحم الميادين بالشجر، وقد يجلب بردى جذوع الحور العتيقة عن ضفتيه، فتختنق الطريق» أضاف محذراً.


تقلبنا في الظلال، عبر «شارع الفردوس»، وكنا كلما أجهدنا المسير، نلوذ بالمقاهي والصمت، فنقحم غيرنا بالكلام.. أغلبهم يؤكدون لنا بتوجس: أن ما من أحد يبيع الماء في الشام، إلا ويجرفه النهر،
ولو بعد حين!
كفُّ النادل في المقهى الصغير، قاصرة، ومجدبة، تعرك خدّه في ملل، 
يهشّ بها على الغبار ويسند ذقنه فوق راحتها، مناصفة.
صرنا مثله، في غضون ساعة ونيّف..
 

طلبنا كأس ماء، وانتظرنا... تشقق الجدار في الحال، ومالَ على الطريق، انزلق وجه النادل عن راحة اليد، وتكسّر فوق الطاولة.
«كم لبثتم؟ وما الذي فعلتموه للتو؟»،صاح مذعوراً وهو يقفز ليسند الجدار.
- لا وقت يُذكر! فقط كنّا نبحث عن كأس ماء..
في مقهى «الحجاز» المجاور، تعلّقنا بخيط ماء رخيص، جلبه النادل سراً، 
ومضى يقلّبُ الرصيف، بحثاً عن زبائن.
 

انسكب خيط الماء الفائض في الحفر المسيّجة، فانطفأ النارنج، وأظلمت الزوايا.
كل وجه أطلّ على التقاطعات المزيفة بالشوارع... ازدرانا.
انبرى كهل أشعث، بصق في الفراغ، همس مشمئزاً: «ماء رخيص..!».
التفتُّ نحو رفيقي، قلتُ معللاً: «ربما طويتُ الصفحة الأخيرة في تلك الرواية، 
لكنني لم أغادر، ما زلتُ عالقا فيها!».
- كيف؟
- يا صديقي... «عبد الرحمن منيف» يستهلّ «النهايات» بما هو أسوأ:
(إنه القحط... مرة أخرى).