الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

القدس ومعركة الهوية بقلم: نور عودة

وعلامةُ رفعِهِ الفِكرة

2017-07-24 06:49:50 PM
القدس ومعركة الهوية
بقلم: نور عودة

الثورة الفلسطينية المعاصرة نجحت في الإجابة عن أسئلة جوهرية منها: من نحن وماذا نريد. الأجوبة على هذه الأسئلة أصبحت جذوة الثورة التي تفجرت في وجه عالم فاجر وأصم، اعتقد أنه نجح في دفع الفلسطينيين إلى غياهب النسيان بتحويلهم لجماعات متفرقة من اللاجئين الذين ينتظرون الإغاثة الإنسانية ولا يفكرون بشيء سوى التغلب على حالة الفقر والعوز التي فرضت عليهم. الثورة المعاصرة حددت معالم الهوية الوطنية الفلسطينية، ورسمت وطناً عابراً للمسافات والحدود والتسميات السياسية؛ وطن يسكن في قلب كل فلسطيني وحر أينما كانوا، وحددت الهدف والبوصلة بكلمة لا بديل عنها: الحرية.

 

وهكذا، فرض الشعب الفلسطيني نفسه على الساحة الدولية وحدد معالم معركته الطويلة، بدءاً بالاعتراف بكينونتهكشعب ثم الاعتراف بحقوقه الوطنية وممثله الشرعي والوحيد ثم الالتزام بالقانون الدولي الذي يلزم الدول بدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها. ومن عبقرية الثورة الفلسطينية المعاصرة في حقبة مضت -للأسف - أنها أذابت حدود الهوية المناطقية الضيقة بين أبناء الشعب الواحد فكان من غير المنطقي ثورياً أن يعرف الفلسطيني نفسه باسم مدينته أو قريته أو حارته لأن الهوية الجامعة كانت أيضاً هي البوصلة والهدف وتتمثل في كلمة "فلسطيني". سبع أحرف كان لها وقع الصاعقة على الساحات الإقليمية والدولية لأنها كانت رديفاًلشعب وقضية وهوية تأبى النسيان أو الخضوع لحسابات ظنّ راسموها أنها غير قابلة للتغيير.

 

لكن الهوية الجامعة هذه تشوهت وتغيرت وتبدلت مع مرور السنوات والمتغيرات السياسية، بما في ذلك ظهور الإسلام السياسي الذي طرح تعريفاً مختلفاً للهوية انحرف تماماً عن التعريف الجامع الذي لم يفرق بين فلسطيني وأخيه إلا بدرجة التفاني والتضحية للوطن. هذا الاختلاف والشرخ الذي تسببه في المجتمع تجلى بعد الانتخابات التشريعية عام 2006، عندما استيقظ المجتمع الفلسطيني على نواب منتخبين لا يقفون لتحية العلم الفلسطيني ويرفضون مشاركة الكل الوطني بوعيه الجمعي حول من يكون وماذا يريد.

 

تفتيت الوعي والهوية لم يختصر على هذا الشرخ، فالسنوات العشرون الماضية شهدت تعزيزاًللهويات الضيقة وأصبحنا نسمع مصطلحات مثل "غزاوي" و"ضفاوي" و "مقدسي" و"فلسطينية الداخل" و"فلسطينية الخارج" و"العائدين" و"المغتربين" و"المواطنين" و"المسلمين" و"المسيحيين" وغيرها من المصطلحات التي قسمت الهوية الفلسطينية إلى فتات غير مترابط في الهدف أو الهم لأن الهم أيضاً أصبح مرتبطاً في الوعي الجمعي إلى حد ما بالفئة والتعريف.

 

اضمحلال منظمة التحرير وتهاوي مكانتها وفعاليتها في حياة الفلسطيني وشأنه العامساهم في هذا التفتيت، بالإضافة إلى انحسار دور وفعالية التنظيمات التاريخية الفلسطينية وصولاً إلى الانقلاب الذي ولّد الانقسام العار قبل عشر سنوات.

 

وبلا شك أن ثورة الاتصالات جعلت العامل الأشد خطورة في هذا السياق الإعلام الموجه ببوصلة الإنقسام والتنافس على الهوية والتمثيل الفلسطيني. الهوية الوطنية تمزقت على الهواء مباشرة وترسخت في عقول الملايين أسئلة ومفاهيم تخلط الحابل بالنابل فتساوي بين الحاجة للإصلاح والضرورة الافتراضية لنسف كل المفاهيم الجامعة والمؤسسات الراسخة لتحقيق الإصلاح المنشود.

 

وهكذا أصح عادياً أن نسمع على سبيل المثال لا الحصر مصطلح "شعب غزة" من قادة الانقسام والآلة الإعلامية المهولة والمتشعبة التي تبنت الانقسام وعززته ورسخت مفاهيماً مشوهة عديدة لتبريره واستدامته. وأصبح طبيعياً أن نتحدث عن موت منظمة التحرير وعدم حاجة الفلسطينيين لها بينما تجيّر كل الأحداث والتطورات الميدانية لتغذية هذه المفاهيم المشوهة وأنصاف الحقائق.

 

الأحداث المتتالية في الوطن وتحديداً في القدس عرت خطورة هذه التوجهات والأجندات المنحرفة عن بوصلة الوطن وأبرزت الضرورة الملحة لمواجهتها إذا ما أردنا للتضحيات ووقفات العز التي نراها ألا تذهب هباءً منثوراً. هناك من استمرأ تحطيم المعنويات وتهشيم الوعي وتقزيم الأحداث.

 

بينما تنزف القدس كرامة وتزهر حرية للوطن بكامله، يغيب الوطن وتغيب القضية الوطنية وتقزم التضحيات ووقفات العز حتى تصبح بحجم الأجندة المنحرفة فتتنوع التغطية ما بين ردح لطرف عربي ما أو خصم فلسطيني أو لطم على عرب أطاعوا رومهم أو مسلمين باعوا روحهم؛ أي شيء طالما أن ذلك يكفي لحرف التركيز عن القضية الوطنية والمشروع الوطني الذي تمثل القدس درته لمكانتها الوطنية والإنسانية والروحانية.

 

ولأجل هذه الأهداف، يتم اختلاق الأخبار وفبركة البيانات وتحريف الصور واختلاق الأحداث لأن ما يجري من تطورات وأحداث لا تفي بالغرض ولا تخدمه. في هذا السياق، يكون اختزال ما يحدث في القدس بالمسجد الأقصى المبارك ومكانته الدينية والحديث عن المقدسيين دون التركيز على هويتهم الفلسطينية ودون ربط المكان بالهوية حرفاً للأنظار عن حقيقة المعركة وهي معركة وطنية جامعة بامتياز تسبب الاضطراب لعرابين الهويات الممزقة.

 

ما يحدث في درة فلسطين أكبر وأسمى وأعمق من أجندات مسخ تقزم الوطن وتحط من مكانة تضحيات أبنائه. المعطيات تستوجب منا جميعاً وقفة مصارحة ومكاشفة تكنس هذه التشوهات من فضائنا وتفسح المجال ليتسع للكل على حساب الأنا وللوطن على حساب القبيلة.