أوهمْنا أنفسَنا سبعين عامًا بأنّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، وأنَّ تحرير فلسطين هو المقدمة للوحدة العربية، أو أنَّ الوحدة العربية هي المقدمة لتحرير فلسطين.
ونحن اليوم نشهد أنَّ قضية الأمة العربية والأمة الإسلامية الأولى تندرج في آخر أولويات الدولة القُطْرية، وتكاد تنسى، بل ويجري التواطؤ عليها وتصفيتها وترك الشعب الفلسطيني وقيادته لمصيرهم.
ولا يمكن تفسير ردود الفعل العربية والإسلامية الرسمية والشعبية الباهتة على تدنيس الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى ومنع المصلين من الوصول إليه ورفع الأذان فيه، وهو المسجد الثاني الذي وضع في الأرض بعد البيت الحرام وقبلة المسلمين الأولى، وثالث الحرمين،ومسرى نبي مليار ونصف مليار مسلم ومعراجه إلى السماوات، لا يمكن تفسيرها إلا بغيبوبة تعيشها هذه الأمة وأقطارها وانشغالها بتدمير ذاتها، وتفكيك دول وقتل أبنائها، والتواطؤ مع أعدائها في كلِّ ذلك.
لم يحرك انتهاك إسرائيل لحرمة الأقصى ومنع الصلاة فيه أحدًا من مليارات المسلمين، وهو جزء من عقيدتهم. ونخشى أن تقدّم حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو المتغطرس الحاقد في ظلّ حالة الموات العربي والإسلامي الرسمي على تصعيد الموقف في القدس وصولاًإلى تقسيم الأقصى، وربما هدمه لإقامة هيكلهم المزعوم، مستخفّين بردود الفعل العربية والإسلامية، لكن الشعب الفلسطيني الذي عبَّر عن غضبه وخرج بالآلاف يتصدى للاحتلال رافضًا المساس بالمسجد الأقصى وادعاءات السيادة عليه، هو ما يجب على نتنياهو وحكومته ومستوطنيه أن يحسبوا له ألف حساب.
فلم يعد لدى الشعب الفلسطيني ما يخاف عليه،أو يخشاه في ظل هذا الاحتلال البغيض الذي يصادر أرضه، ويقتلع أشجاره ويقتل أبناءه، ويدنِّس مقدساته، وينظر إلى أمته العربية والإسلامية، فلا يرى إلا قتالاً ودمارًا وضربًا وفشلاً لدول هذه الأمة. وكلَّما ظنّأنَّ هذا العالم العربي تعافى في قُطْرٍ من أقطاره وقبائله وطوائفه، فاقمت جراح هذه الأمة، وباعدت بين الإخوة الأعداء.
ولم يكن ينقص هذه الأمة بعدما جرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر وتونس والسودان والصومال سوى الخلاف المفاجئ بين دول الخليج العربي، واستدعاء واشنطن وتركيا وإيران وألمانيا وفرنسا للعبث في المنطقة، وتعقيد الأزمة الخليجية، وإضعاف دول مجلس التعاون الخليجي، وتبديد ثرواتها.
وما لم ينتبه الحكام العرب إلى الكارثة التي تحيط بأقطارهم وشعوبهم ونظمهم، فإنَّ مصيرًا قاتمًا بانتظارهم وشعوبهم، وتتمثل هذه الكارثة في تفكك النسيج المجتمعي لهذه الدول وفقدان الدول السيطرةعلى أراضيها، وفرض سيادتها عليها، وفكّ الارتباط بين النظام والشعب، وفقدان الأمن واستشراء الفساد والفقر والمرض. ولم يعد هناك هدف جامع يلتف حوله الشعب وترعاه الحكومة.
وبضياع القضايا الجامعة لشعبِ كلِّ دولة عربية، لم تعد هناك قضية،أو قضايا جامعة للأمة العربية "المفترضة"، فلا الوحدة العربية تجمع دولاً متصارعة، ولا فلسطين، ولا الأقصى، ولا عدو مشترك يوحّدهم خطرُه، فهم أعداء بعض ولا حاجة لعدو خارجي. فالدين الذي كان عنصراً من عناصر وحدتهم بات اليوم عامل فرقة وتنافر مذهبي وطائفي وقتل على الاسم والهوية.
ولما كانت هذه حال أمتنا التي انتظرنا طويلاً نصرتها، فما علينا إلا أن نتوكل على الله، ثُمَّ على سواعدنا في مواجهة عدونا الذي يحتلُّأرضنا، ويدنّس مقدساتنا، ويرفض اليد الممدودة إليه للسلام، ويتنكّر لأبسط حقوقنا الثابتة والمشروعة في إقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية في حدود الرابع من حزيران 1967، وحقّ عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم وممتلكاتهم وفق الشرعية الدولية.
وليس اليوم أهم من الالتفاف حول م.ت.ف،كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وتعزيز الوحدة الوطنية، ودعم أهلنا في القدس المحاصرة وصمودهم في الدفاع عن الأقصى. وما البوابات الإلكترونية التي وضعتها سلطات الاحتلال على أبواب الأقصى إلا خطوة من سلسلة خطوات متتابعة لتهويد المسجد الأقصى وبسط السيادة الإسرائيلية عليه، لكنها خطوة رعناء من حكومة نتنياهو؛ فجَّرت غضبًا كامنًا في صدور الفلسطينيين على الحكومة اليمينية، واستفزازات المستوطنين التي لا نهاية لها إلا بزوال الاحتلال.