قضية سمسرة تقودها البطريركية اليونانية الأرثوذكسية في فلسطين ليست وليدة اليوم ولكنها قضية قديمة جديدة، تعود فصولها لعام 2004، تم الكشف عنها عام 2005 وأدت إلى إقالة البطريرك السابق ايرينوس، طفت على السطح بعد مصادقة المحكمة المركزية الإسرائيلية على تملك ثلاثة شركات مرتبطة بالجمعية الاستيطانية "عطيرت كوهانيم" حقوقاً قانونية لثلاثة عقارات كبيرة تقع قرب باب الخليل في البلدة القديمة بالقدس المحتلة.
تلك الحقوق تتعلق باستئجار المستوطنين للعقارات الثلاثة – التي تدير اثنين منهما عائلة الدجاني ولم تعلم بالصفقة السرية وهما فندق البتراء مكون من أربعة طوابق ويقع قرب باب الخليل، وفندق امبريال هو مبنى كبير مكون من طابقين ويقع قرب المبنى الثالث وهو بيت المُعظمية بالقرب من باب حُطة المؤدي للمسجد الأقصى الذي هو مبنى سكني تعيش فيه عائلة فلسطينية في الحي الإسلامي- لمدة 99 عاما مع إمكانية تمديد العقد لـ99 عاما أخرى بموجب اتفاقية بين الشركات الثلاثة التي تمثل المستوطنين والبطريركية اليونانية الأرثوذكسية في القدس.
إن تسريب وتأجير العقارات من البطريركية اليونانية يسير على قدم وساق مع مشاريع تهويد القدس التي تقوننها إسرائيل سواء بالمصادقة على قانون منع تقسيم القدس أو ضم 24 مستوطنة إسرائيلية إلى داخل حدود بلدية القدس، وإحداث تغيير ديمغرافي بنقل مخيم شعفاط وكفر عقب وعناتا إلى خارج حدود البلدية في سلطات محلية مستقلة، لكن أخطر ما يحدث الآن بعد معركة الأقصى هو بيع الكنيسة لعقار في المُعظمية عند باب حُطة، علماً أن ما يسرب أخبار صفقات البيع والتأجير هي إسرائيل لتقول للفلسطينيين والمسلمين: سنكون مسؤولين عن هذا الباب، وأن الفلسطيني يبيع أملاكه لصالح الاستيطان.
الصفقة الجديدة بدت في الظهور بالقدس من مسلسل صفقات بيع الأراضي الكنسية تتعلق بتأجير رأس الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ثيوفيلوس الثالث نحو 500 دونم لشركة "يانوت قومميوت" من الأراضي التابعة لها في حي الطالبية بمدينة القدس المعروفة بصفقة "رحابيا" لعقود طويلة الأجل لمدة 99 عاما، تم الكشف عنها بعد أن قدمت الكنيسة التماساً للمحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس لإجبار بلدية القدس على إعفائها من ضرائب "الأرنونا"، والتي تعود أصولها إلى خمسينيات القرن الماضي حيث أبرمت البطريركية اليونانية مع ما يسمى "الصندوق القومي اليهودي".
هذه الصفقة لم تكن الأخيرة فقد كشف النقاب مؤخراً عن صفقة بـ32 مليون دولار، على أراضي حي الطالبية الراقي المحاذية لأرض "حديقة الجرس" حيث مقري إقامة رئيس دولة الاحتلال ورئيس وزرائه ومقر الكنيست الإسرائيلي، والمقام على هذه الأرض 1500 عقار إضافة إلى قطع أراضي كثيرة غير مستغلة يتم استئجارها بعقود تنتهي عام 2052، وتشمل كذلك الأراضي المحيطة بدير المصلبة "دير الكرج".
تضاف لتلك الصفقة استكمال البطريركية اليونانية الأرثوذكسية بيع حقوق ملكيتها على الأرض التي تتواجد عليها منطقة دوار الساعة في مدينة يافا لشركة "بونا ترادينج" المسجلة في دولة سانت فينسنت بجزر الكاريبي والتي تعود للعام 2013، وفقا لصحيفة "كلكليست" الاقتصادية التابعة ليديعوت أحرنوت، ان البطريركية اليونانية وقعت في العام 1998 على اتفاق مع شركة "حي الساعة" على تأجير الموقع لمدة 99 عاما مقابل 1.5 مليون دولار وتسليم البطريركية 35% من المباني التي ستقام في الموقع.
وقد سبق ذلك عدة صفقات نذكر منها "قيسارية" والتي بيعت العام الماضي وأنكرتها البطريركية ولكن لا ندري ربما في الأيام والأسابيع القادمة سيتم تأكيدها لتصفية ما تبقى من أوقاف الكنيسة، وكذلك المدرج الروماني في قيسارية وهو وقف أرثوذكسي تم بيعه قبل شهرين بحسب إحدى الصحف الإسرائيلية، وكذلك في العام 2011 اشترت شركة "يانوت قومميوت" 550 دونم في مركز القدس لمدة 110 سنة، وكذلك الحال في عام 2012 بيع عقار في شارع الملك داوود بالقرب من فندق الملك داوود بغرب القدس مساحته دونم ونصف لجهات إسرائيلية مقابل 10 ملايين دولار أقامت عليه برج سكني ويحوي 88 شقة سكنية.
لم تكتف الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية بذلك، بل تضيق الخناق وتحاصر كل من يدعو لتعريب الكنيسة حتى وصل بها الحال لعرقلة أداء مهام مطران الكنيسة الإنجيلية الأسقفية في القدس والشرق الأوسط سهيل دواني، بذريعة قيامه بنقل ملكية أراضي من اليهود إلى العرب وتواصله مع السلطة الفلسطينية، وتم رفع قضية عليه ما زالت عالقة في أروقة المحاكم، إضافة إلى بروز توتر علني بين أقطاب معادلة الأراضي والأملاك في مدينة القدس مع الإعلان عن صفقة جديدة تتعلق بتأجير قطعة أرض تابعة للبطريركية اليونانية الأرثوذكسية على الطريق الواصل بين القدس وبيت لحم (منطقة بيت صفافا بمار الياس) سيتم تحويلها من أراضي خضراء لمناطق تقام عليها مشاريع سكنية.
الواقع العام في سيطرة البطاركة اليونان على سدة الحكم في البطريركية منذ تسلم البطريرك اليوناني جرمانوس في العام 1534م، الذي جرى في عهده "يوننة الكنيسة" الذي يمنح نقل تركتها للأخوية فقط -حسب قانون أخوية القبر المقدس- على حساب الأبناء الوطنيين، وأصبحت جميع الأوقاف الكنسية تحت وصاية اليونان، وكان أول وأهم البنود في القانون الجائر بحق الرعية الأرثوذكسية، حيث يحق للبطريرك التفرد بالتصرف بالأملاك والأوقاف الكنسية بيعاً وشراءً بصفته رئيساً للمجمع المقدس والتي تعتبر أن جميع الأوقاف والمزارات وما يخصها داخل فلسطين وخارجها مُلك للأمة اليونانية، كما وأن البطريركية المقدسية تخضع للقانون الأردني رقم 27/1958 والبطريرك أيضاً منفرداً وبحسب القانون هو من يمثل المسيحيين، والمادة 12 من القانون الأردني تمنح البطريرك صفة معنوية يحق له من خلالها التصرف بالأملاك وبيعها أو تأجيرها لخدمة الكنيسة، والأدهى من ذلك أن الأموال لا تذهب لتطوير الرعية الأرثوذكسية بل تستثمر باليونان.
إن تلك الصفقات والتنازلات المجانية من قبل رأس الطائفة الأرثوذكسية اليوناني الأصل، تؤكد أن البطاركة اليونان رغم العلاقات التي تربط الشعبين والقيادتين الفلسطينية واليونانية، غير مؤهلين للدفاع عن المصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية وحماية أملاك الطائفة نفسها. رغم أن قوانين الكنيسة الأرثوذكسية تمنع بيع أو تسريب أو تأجير الأراضي باعتبارها أراضي وقف ديني، ما خلق خلاف بين الرعية العربية الأرثوذكسية والبطريركية اليونانية الخاضعة للضغوط الإسرائيلية.
يتطلب اليوم قبل الغد تغيير قانون يوننة الكنيسة نحو تعريبها من أهلها الوطنيين الغيورين باعتبارها ضرورة وطنية ملحة، والتحرك الفلسطيني الجاد على أعلى المستويات، والاستجابة لمطالب الحراك الشعبي بالمؤسسات والجمعيات والفعاليات العربية الأرثوذكسية المقدسية لوقف هذه المسرحية الهزلية التي ترتكب في وضح النهار.
التاريخ يشهد أن شعبنا الفلسطيني كما انتصر في معركة الدفاع عن القدس والأقصى لن يمر مرور الكرام على الصفقات والتنازلات المجانية، وسيقف سداً منيعاً في وجه تلك الصفقات المشبوهة التي تقودها البطريركية اليونانية بحق الأراضي الفلسطينية التي تعتبر أراضي وقف ديني يمنع التصرف بها وبيعها لصالح مشاريع التهويد الإسرائيلية.