الدين، في المصطلح الإسلامي معروف، ومع هذا يختلف الأفراد في طريقة تعاملهم مع تعاليمه ومقتضياته، فمنهم من يتعامل معها كعادة ، ومنهم من يتعامل معها كعبادة، ومنهم من يتخذها ثقافة ومنهج حياة، والفئة الأخيرة هي الأقرب إلى رسالة الدين وغاياته، ليس لأنها تتعامل مع الدين بشكل أكثر وعياً وأشمل تطبيقاً فقط ، بل لأن من يتخذ من تعاليم الدين ومقتضياته ثقافة ومنهج حياة سيكون بطبيعة الحال ملتزماً بما في الدين من العبادات، والتزامه بها وبغيرها من مقتضيات الدين وتعاليمه سيجعلها لديه من أقرب العادات وأحبِّها .
ومن هنا، فإن الذي يتعامل مع الدين بتعاليمه ومقتضياته كثقافة، أي كأسلوب حياة ،سيرى ـ ويرى الآخرون ـ في سلوكياته جميع ما في الدين من خير وصلاح ، وبهذا فإنه يبيّن لهم بالفعل ـ وليس بالقول فقط ـ ما في هذا الدين من معاني سامية وغايات نبيلة.
إن المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن أكثر أيامه بهاء كانت تلك التي ساد فيها الدين كثقافة، ابتداء من أيام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مروراً بالمراحل التي تلتها من تاريخ الإسلام، حيث تحلّت مسلكيات الناس، بشكل عام، في الفترات التي اتخذ فيها الناس الدين كثقافة بالعديد من النقاط المضيئة المتوالية والمتكاملة، والتي تبدأ بقوة الإيمان، وليس المقصود بالإيمان هنا كمفهوم ديني فقط، بل كفلسفة ينطلق منها الفرد أو الجماعة نحو الحياة العامة والخاصة بثقة في سلامة الموقف وفي حتمية سيادة الخير والصلاح، وبناء على قوة الإيمان هذه تتولد في النفس طاقة من التحمل عظيمة تهيّئ للفرد والجماعة القدرة على الثبات على الموقف والمضي قدماً لتحقيق الأهداف النبيلة، وذلك من خلال الجهاد، وكلمة الجهاد قد تكون ثقيلة على السمع في هذه الأيام، لأنه قد أسيء إلى هذه اللفظة في معناها وفي تطبيقها على أرض الواقع، وذلك بجهل الجاهلين وحقد الحاقدين، حيث أن هذه الكلمة بمعناها الأصيل تشير إلى بذل الجهد في سبيل تحقيق الغايات السامية، وبضمن ذلك جهدالتوجه إلى القتال حينما لا يكون من ذلك بدّ، لتحقيق مقاصد الدين، دون أن ننسى أن الجهاد أيضاً يمكن أن يكون بـ ( كلمة حق عند سلطان جائر ) ويمكن أن يكون بالبر والإحسان، إلى الوالدين مثلاً، كما ورد في الحديث الشريف ( .. ففيهما فجاهد )،
ويمكن أن يتجلى الجهاد في مجاهدة النفس بمنعها عن الهوى أو بحثّها وحضّها على المكاره، وعند المضيّ في سبيل الجهاد، وخاصة ذلك النوع المتعلق بمصارعة الأعداء، لا بد من أن تتولد في النفس نقطة أخرى من هذه النقاط المضيئة، وهي التسامح ،سواء أكان ذلك في التعامل مع الضعفاء المسالمين أو مع الأسرى المحاربين، وذلك وفق أصول محددة، وكم ضرب العرب والمسلمون من الأمثلة على التسامح في ميادين القتال، والتسامح في حقيقته نوع من تقبل الآخر، حتى وإن كان خصماً أو عدواً، فما بالك إذا كان جاراً أو شريكاً في الوطن كما كان عليه الحال في دمشق وبغداد والقدس الشريف والقاهرة ومدن الأندلس وغيرها! وتقبل الآخر هو المدخل الواسع إلى حيّز التعايش معه
والتعايش بدوره يقود إلى البرّ والإحسان بين المتعايشين بحكم الضرورة، وليس فقط تنفيذاً لهدي الدين، والبر والإحسان وليدا التقوى ( ولكن البرّ من اتقى ) ومن التقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكافل والوفاء بالوعد وبالعهد والصدق في التعامل سواء أكان ذلك بين أبناء الفئة الواحدة أو مع أبناء الفئات الأخرى من المجتمع.
هكذا كان الحال في المجتمع العربي الإسلامي عندما كانت هذه النقاط المضيئة المشرقة هي التي تزين أبناء المجتمع الإسلامي، وحينما كانوا يتحلون بها في تعاملهم مع أنفسهم ومع الآخرين مسالمين أو محاربين، وهي النقاط التي تؤكد لنا أن المسلم كان يتعامل مع الإسلام ـ كما ذكرنا ـ كثقافة، ولم يكن يتعامل معه كمجموعة من العادات أو العبادات ليس غير !