إنّ شغف الإنسان بالمكان، لا ينحصر فقط في الجغرافيا، وإنما أيضًا في كلِّ الكائنات الحية التي تشغل فضاء هذه الجغرافيا.
من هنا نلحظ محاكاة الشعراء للطبيعة بكلِّ مكوناتها، من بشر وحجر وحيوان ونبات.. ومن هنا نقرأ المعطى الإنساني لما وراء اقتراح الشاعر في هذا النصِّ أو ذاك.
فإذا كانت صرخة "ابن الرومي" ردًّا على محاولات جاره اغتصاب جزء من بيته دفعته للقول:
"وَلِي وَطـَـنٌ آلَيْتُ أَلَّا أَبِيعَـهُ، وَأَلاَّ أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكا" فبما يمكن أن يصرخ الشاعر المعاصر، وهو يشهد على خراب بيته، وسرقة تاريخية، وتشويه هويته؟
إنّه السؤال المعضلة الذي تندرج تحته عشرات المعضلات من الأسئلة، فيما الشاعر بشر، يحزن ويفرح، يتألم ويغني، يجوع ويأكل في نسق حياة لا تعرف إلا سنن التكرار، تكرار المأساة، والخيبات، والانكسارات، وبالرغم من أننا نجد الشاعر يربي الأمل على حدِّ تعبير شاعرنا الباقي "محمود درويش".
والأمل لدى الشعراء عامة، يمكن أن نسميه بالأمل الخصب، يتوالد كما تتوالد الكائنات الحية، فلا الغياب يلغيه، ولا الحضور ينازعه على فضيلة التكاثر، فنجده تارة منفتحًا على قضاياه التاريخية، والثقافية، وتارة منفتحًا على مشكلاته الاجتماعية، وهذا ما حاول أن يدوِّنه شاعرنا اليوم متسائلاً: "لو أستطيعُ أنْ أساومَ شجرةً في البراري على رُوحِها/ لَقلتُ في فخرٍ: أنا شجرةٌ".
وعليه فلم يأت عنوان ديوان شاعرنا اليوم " أُساومُ شجرَةً على رُوحِهَا " محض مصادفة عابرة، ببساطة لأن الشجرة بوصفها رمز الخصوبة والقوة والإنجاب، نجدها أقرب الكائنات الحية للتماثل مع الإنسان، ليبقى السؤال معلقاً: لماذا يريد الشاعر مساومة الشجرة على روحها؟
لا أحد يمكنه الادعاء بامتلاك الجواب الشافي لما أراد الشاعر قوله من خلال هذه المساومة العنوان، ولكن حينما نغوص في النصِّ سنجد إجابات واضحة، وضوح الشمس التي لا تغطى بغربال، كأن ندرك الشاعر وهو يريد من فعل الأنسنة للشجرة، أن يدين شكل واقعه البشري الغارق في بحار الفتن، والدمار، والدماء، لصالح ما تقدمه هذه الشجرة من تفهّم وعطاء ووفاء وتعايش، قائلاً:
لو أستطيعُ أنْ أساومَ شجرةً في البراري
على رُوحِها
لَقلتُ في فخرٍ: أنا شجرةٌ
أمنحُ ظلِّي للمرهقينَ
وأختزنُ في ذاكرتي قصصَ العشاقِ
أتعايشُ مع الأشياءِ على طبيعتِها
وأتفهمُ كيمياءَ جسدي
وأكونُ صديقًا جيدًا للطيورِ
لو أستطيعُ أنْ أدخلَ عالمًا
يتبادلونَ فيه الأرواحَ
لَبدلتُ قلبي بزهرةٍ
لو أستطيعُ..
لكنَّ العالمَ ما زالَ بهذا القبحِ.
بهذه البساطة يلحظ القارئ، بحث الشاعر عن مفاعيل الأمل خارج نطاق الصورة الباهتة لمفهوم الأمل في الأحلام، والتي يصفها بالمرافق الدائم "للذاكرة المريضة" (صفحة 30). وكذا يلحظ محاولاته الدؤوبة تأكيد إدراكه لما يدور من حوله بدقة لا يتقن معالمها إلا الشعراء، بما يملكون من أدوات تؤهلهم لخطّ ملامح التواصف، والاستبدال، والكناية، والاستعارة، في ضربة واحدة، هي القصيدة.
الشاعر المصري عادل العدوي في ديوانه الأخير، موضوع القراءة هنا، لم يستطع بلغته الصوفية في الكثير من اقتراحاته، إلا أن يحاكي الحياة من موقع حياة أخرى، حياة ما بعد الموت، بوصف "الموتُ.. حقيقةٌ / والحياةُ.. تفاصيلُ على حافّةِ المقبرةِ " (صفحة 24).
هذه الحياة الأبدية مكّنت الشاعر من إعادة إدارة حياته الأولى كما تمناها، لا كما فرضت عليه، فنجده يقلم الأشجار قبل أن "ينزعوا عنها فرعها الجميل"، ورغم أنه حاول، "تذكر ملامحه بلا جدوى " (صفحة 25).
والموت هنا فعل حضور بلغة أخرى، لغة يمكنها أن تدير الحفل نيابة عن الميت الحي في أشد حالاته ألمًا:
الموتُ يديرُ الحفلَ بجلالٍ وعطفٍ
كخادمٍ يدورُ على الضيوفِ بكؤوسِ النبيذِ.
أغلقوا القبرَ بإحكامٍ
ومنعوا أيَّ ضوءٍ فضوليٍّ من التسللِ
للحفاظِ على سريِّةِ العتمةِ. (صفحة 20).
لا أحد منا ينكر أنَّ ما يميّز الشاعر أنّه يملك قدرة كامنة تجعله يرى ويشعر بالأشياء بشكل مغاير عن ما يمكن للإنسان العادي أن يراها ويشعر بها، ما يدفعنا للقول: إنّ وجع الشاعر وألمه في ديوان "أساوم شجرة على روحها" لم يكن من الحياة بحدِّ ذاتها، وإنما من الأقنعة التي نرتديها ليل نهار، وكأننا خلقنا للزيف عنوانًا، إذ يقول الشاعر هنا:
كنتُ منشغلاً بإحكامِ القفصِ على يماماتي قبلَ الخروجِ للسهرةِ
أسرعتُ للكرسي الأخيرِ المتبقي في الحفلِ
الجميعُ اجتهدَ في التنكرِ
لكنني قررتُ ارتداءَ قميصي الشهيرِ
وابتسامتي المعهودةِ. (صفحة 26).
كلُّ ما ذُكر أعلاه مهَّد الطريق أمام الشاعر لمحاكاة الحالة الوطنية الراهنة، ليس فقط في مصر، وإنما في الإقليم برمته، لما لهذه الحالة من ارتدادات طبيعية على الهوية الجمعية للكل العربي، بوصفها المكون الأساس للتاريخ العربي، وليس لجزء منه، وإن حاول البعض تغريب هذا الإقليم أو ذاك عن بيئته الجامعة.
وهنا يمكننا أن نقرأ الكثير من الإشارات الواضحة كقوله:
مَن يمنحني ملعقةً فضيّةً
أفرِّغُ بها ذاكرتي من فوضى الأماكنِ
البلادُ شجرةٌ تَسقطُ أوراقُها في جيبِ مرابٍ
يسلبُ من النومِ أحلامَه
ويلقي بها في جرةِ فتاةٍ ينحسرُ العالمُ في تجويفِ جلبابِها
غربانُ البيتِ ينعقونَ في الحي
يفاوضونَ على جمجمتي في ساحاتِ الربِّ
وأنا في زاويةٍ من الغرفةِ
أشربُ بحيرةً آسنةً
وحبيبتي ما زالتْ تراني أوسمَ رجلٍ في الحظيرةِ
يخرجُ من جنونِها إلى حلبةِ التكوينِ
قطًّا مشاكسًا يركضُ. (صفحة ....).
وهنا أيضًا لا يدعي الشاعر بطولة زائفة، وإنما يرجع لكلّ ذي حقٍّ حقه، فنراه مرة يعترف بحقيقة الأمر قائلاً:
البطولةُ كذبٌ يا حبيبتي/ وأنا واقفٌ على تلٍ من الجثثِ/ وكلُّ الورودِ، والطيورِ، والأسماكِ التي أهديتُكِ/ وهمٌ من خيالي المريضِ. (صفحة ...).
ومرة يطوّع حرفه؛ ليكون جسرًا لتوثيق اللحظة ما قبل الأخيرة للسادة الشهداء، باعتبارهم طلاب حرية وكرامة لا رغيف خبز مغمسًا بالمذلة، ليكون قوله:
كانَ يظنُّ
أنَّ الشمسَ تفهمُ آلامَ أقدامِهم الحافيةِ
وانكسارَ مرورِهم من هنا
كانَ يظنُّ
أنَّ كسرةَ خبزٍ تكفيهم
وتعيدُ إليهم الثقةَ في السماءِ
كانّ يظنُّ
أنَّ الأرضَ هي الأرضُ
والشمسَ هي الشمسُ
والبيوتَ هي البيوتُ
وأنَّ الحياةَ متسعٌ للجميعِ
كانَ يظنُّ..
لكنْ،
لا شيءَ يعوضُ الوطنَ.
وبالرغم من منازلته للنظم الدكتاتورية التي أوصلت الحال إلى ما هي عليه بالقول المباشر:
تلكَ الأيامُ، فاشلةٌ جدًّا/ تُشبِهُ أعدائي، الذينَ لم أتذكرْ ملامحَهم في ساحةِ المعركةِ/ تلكَ الأيامُ، هجينةٌ، لقيطةٌ، كجَوارٍ في بلاطِ سلطانٍ مسلوبِ الرجولةِ.
إلا أنّه لم يسقط في شرك الناطقين باسم الإله على الأرض، فكانت لهم حصتهم من المنازلة، وهو يقول:
لا أملَ في وقفِ النزيفِ
النصلُ مسلَّطٌ بعنايةٍ
واليدُ التي مرتْ على رقبتِكَ
لم ترتجفْ قطْ
تعملُ باحترافٍ
تدربتْ في الخفاءِ على كيفيةِ التقطيعِ
استجبْ!
سرعانَ ما تسري البرودةُ في جسدِكَ
لا ألمَ
ولا دموعَ
ما الضيرُ إذنْ
وأنت تُذبحُ باسمِ اللهِ! (صفحة...).
ونجده يؤكد رفضه لهذه الشريحة الدخيلة على المجتمع العربي بعامة، والمصري بخاصة بدفعه لمحبوبته عدم التسليم مهما كان الثمن، فنجده يقترح عليها:
هناكَ
في العالمِ السِّرِّيِّ
الذي سميتِه عالمَكِ الخاصِ،
أعددتُ لكِ سلمًا كهربائيًا
لتصعدي إلى السماءِ
كلما احتجتِ إلى مناجاةِ الربِّ
مباشرةً
دونَ وسطاء أو مخادعينَ
ليسمعَ قلبَكِ الموجوعَ
وقصصَكِ الخرافيةَ
التي دسُّوها في منديلِ رأسِكَ
الربُّ طيبٌ يا حبيبتي
يسمعُ ويرى
حتى حشرجةِ الهمِّ
ما بينَ قلبِكِ وخيطِ الماءِ الساخنِ
المُهرَقِ على خدِّكِ.
وكما هو نهج الشاعر في مقولته المقاومة لكلّ ملامح الخراب الفكري والسياسي والثقافي، وبرغم كلّ هذا الكم الهائل من الخيبات التي نالت منه ومن جيله، إلا أننا نجده لا يتراجع ولا يستسلم، وإنما يعلن التحدى تارة تلو الأخرى، ليخطَّها في قول واحد دون مواربة أو مخاتلة:
لا حاجةَ لي
في انكسارِ الضوءِ على جداري
ولا أنْ أقتسمَ معكُم كسرةَ خبزٍ
لا ابتسامةَ
لا قبلةَ
ولا حتى حرارةَ عناقٍ
فقطْ،
أظهروا بعضَ الخجلِ
وأنا أغزو العالمَ من حولكم..
هكذا تكلمَ الطفلُ الذي خرجَ من تحت الأنقاضِ. (صفحة ...).
لعلّ ما يميز نصّ الشاعر عادل العدوي، وهو يُصيغه منْ نزيف التجربة، هي تلك العوالم التي يذهب إليها مخياله الشعري بلغة طازجة تنحاز إلى مدرسة السهل الممتنع، دون إغفال للنسق الفلسفي حينًا، والزاهد أحيانًا.. لغة عميقة تُحول رشاقة الجملة إلى ذخيرة حية قوامُها وحدة الفكرة ودهشة المفارقة.
----------
الشاعر في سطور...
عادل العدوي روائي وشاعر وناقد أدبي مصري، له رواية بعنوان "رائجة كريهة" 2007 ومجموعة قصصية بعنوان "الليلة الخامسة" 2009 وديوان شعر "أساوم شجرة على روحها"، وله العديد من المقالات النقدية والدراسات المنشورة في الدوريات والصحف والمجلات المصرية والعربية، كما نشر في مجال تحقيق التراث كتبًا عديدة منها "ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية" ومعجم "المقتضب" عن اللغة المصرية، وحصل على الجائزة المركزية في الرواية عام 2004. وحصل ديوانه هذا على جائزة مجلة قصيدة النثر عام 2017.
له تحت الطبع رواية "في طرفها حور"
وقريبا قيد النشر مجموعة قصصية ومجموعة شعرية.
ومن أجواء الديوان:
تلكَ الأيامُ
فاشلةٌ جدًا
لم تمنحني طاقةً مناسبةً لتأمُّلِ النجومِ
وترتيبِ اليومِ وفقًا لسيدةِ الأحلامِ.
تخيلْ: إنني لم أستطعْ وضعَ قبلتي على خدِّ الصباحِ
ولم يسعفني الوقتُ لوشوشتِها بسرٍّ جديدٍ.
تلكَ الأيامُ
تُشبِهُ أعدائي
الذينَ لم أتذكرْ ملامحَهم في ساحةِ المعركةِ
تصطحبُني إلى المقهى في فتورٍ غريبٍ
وتُجبرني على احتساءِ المشروباتِ المثلجةِ
ولا تتركُ للقهوةِ فرصةَ إعادتي للقصيدةِ.
تلكَ الأيامُ
بالتأكيدِ ليستْ مدرجةً على قائمةِ الحبلِ السُّرِّيِّ لفتاةِ البنفسجِ
التي كانتْ تأتيني في المنامِ بمشمةِ أُنوثتِها
وتمنحني ذكورةً كاملةً.
تلكَ الأيامُ
هجينةٌ
لقيطةٌ
كجَوارٍ في بلاطِ سلطانٍ مسلوبِ الرجولةِ.
***
تلكَ الحياةُ
صعبةٌ.. رديئةٌ
أزحفُ كثعبانٍ مريضٍ
تحتَ أحذيةٍ ضخمةٍ سوداءَ
ولها رقبةٌ طويلةٌ
سيورُها تلتفُ حولَ عنقي بإحكامٍ
وأكفٌّ كثيرةٌ تُصفِقُ بِلا توقفٍ
وثمةَ رجلٌ يقفُ خلفَ طوابيرَ متراصةٍ بانتظامٍ
ينظرُ في ساعتِه التي بلا عقاربَ ويضحكُ ضحكةً ثلجيةً.
تلكَ الحياةُ
ساحةٌ فارغةٌ من اللعبِ والرقصِ
مليئةٌ بنعاماتٍ تدفنُ رؤوسَها في الأسفلتِ
وطيورٌ، وزهورٌ، وسمكاتٌ بلاستيكيةٌ
خاليةٌ من ماءِ العينِ
تشبهنا بقدرٍ مخيفٍ.
تلكَ الحياةُ
مرادفٌ لموتٍ قديمٍ
كان مزدهرًا وله عائلةٌ عريقةٌ في المعاجمِ
لم تزلْ تحبو
إلى آخرِ الأبجديةِ.