هذه الإمبراطوريات الرأسمالية التي ترونها في الغرب؛ بمكوناتها السياسية وبحكوماتها؛ ما هي إلاَّ أحد مظاهر سلطة الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود والقارَّات؛ وهي تَتَّخِذُ من مظاهر تطبيقات مفاهيم الدِّيمقراطيَّة ومن الحكومات أقْنِعَةً لها؛ وهي ثمرة التحالف بين رأس المال والاقتصاد والنِّفط والسياسة ومجموعات المصالح والنُّخَب الطُّفَيْلِيَّة والمؤسَّسات الدِّينيَّة الرَّسميَّة وغيرها عبر العوالم -وربَّما يتجلَّى الشَّق الأخير من العبارة السَّالفة بشكلٍ واضح في دول ما يُسمَّى بالعالم الثَّالث- فمعظم الَّذين تبوَّءوا مواقع المسؤولية؛ وتحديدًا في الولايات المتحدة، تدرَّجوا من مديرين عامِّين للشركات متعددة الجنسيات وللبنوك الرئيسية الكبرى؛ إلى رؤساء ووزراء خارجية ووزراء دفاع. ففعل ومفاعيل المال ورأس المال ومجموعات المصالح وقوَّة ووتيرة تأثيرها في الدِّعايات الانتخابيَّة وفي تحديد منحى نتائجها في الغرب عمومًا، وفي الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة تحديدًا يمكن ملاحظته بوضوح.
أحدُ الأمثلة على ذلك: "بيتر ماكِنْمارا"؛ فمن مدير عام لشركة فورد في منتصف القرن المنصرم إلى مدير عام للبنك الدَّولي، إلى وزير دفاع للولايات المتحدة الأمريكيَّة في ستينيات القرن الماضي؛ ومثال ذلك جورج بوش الأب في نهاية عقد الثَّمانينيَّات من القرن المنصرم؛ فمن مدير عام لشركة "بيكتل"، وهي شركة بناء وإنشاءَات عقاريَّة متعددة الجنسيات؛ إلى نائب للرَّئيس "ريغان" إلى رئيس للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها: كاسبر واينبرغر، كوزير دفاع، وجورج شولتز، كوزير خارجية، وجيمس بيكر وزير الخارجيَّة الأمريكيّ الأسبق ومهندس وباني التَّحالف الدَّولي ضد العراق عام 1990 –ذلك التَّحالف الَّذي كان مًبِرِّرًا وغطاءً لنزول القوَّات الأمريكيَّة حول منابع النِّفط في الخليج العربي، وهي خطَّة أمريكيَّة مُعدَّة سلَفًا منذ أزمة حظر إمدادات النِّفط عام 1973– وبالمناسبة فقد دُفِعَتْ كلفة الحروب على العراق من قِبَلِ دول الخليج النَّفطيَّة مضاعفة، فكلُّ صاروخ كروز أو توماهوك أو قذيفة ذكيَّة أُطلِقَتْ على العراق سُجِّلَ في مقابلها على فاتورة مديونيَّة تلك الدُّول رقم بمليون دولار على الأقل لصالح حساب المجمَّع الصِّناعي العسكري والتكنولوجي الأمريكي، وبالتَّالي ألْحِقَتْ في حساب الخزينة الفدراليَّة الأمريكيَّة.
وجيمس بيكر –كما يرف الجميع- هو مهندس عمليَّة السَّلام في منطقة الشَّرق الأوسط في أعقاب حرب الخليج الأولى –كأحد استثمارات نتائج تلك الحرب سياسيًّا لصالح السياسة الأمريكية وإسرائيل– وهو مخترع مُصطلحات تلك العمليَّة وتعبيراتها البرَّاقة كافَّة والَّتي ردَّدَها ويرددها العرب والفلسطينيون تحديدًا، حتَّى الآن بعد أنْ حَفِظوها عن ظَهْرِ قلبٍ من أستاذهم جيمس بيكر، حيث كانوا كما لو أنَّهم ينتِظِمون في صَفٍّ دراسيٍّ كتلاميذ نخبَويينَ نُجباء، يتلقُّونَ دروسَ الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة الَّتي فعَّلها بيكر آنذاك بشكلٍ غير مسبوق، وأضفى على المصطلحات التي تستخدمها دبلوماسيَّته بريقًا وإطارًا مُفَخَّمًا كان يبدو أنَّه يليقُ فقط بحديث الصَّالونات والإنتلِجِنْسيا (النُّخَبْ) المفتونة بنباهَتِها وفصاحَتِها، وكأنَّما كان يُراد ألَّا يَفْهَمَ مغزى تلك المصطلحات ومضامينها المُبْهَمة سوى فرسان مرحلة عمليَّة التَّسوية العرجاء الحمقاء فارغة المضامين –كما دلَّتْ مؤدّيَاتها ومجرياتها حتَّى هذه اللَّحظة- ومن تلك المصطلحات كان على سبيل المثال: مصطلح عمليَّة السَّلام ذاته، ومصطلحات من قبيل، تعدد المسارات، والبدءُ بالأسهل، وقضايا الوضع المؤقَّت، وقضايا الوضع الدَّائم، وإجراءَات بناء الثِّقة، والتَّبادليَّة، وقد كان كل ذلك ضمن منهجيَّة الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة التي كانت تستهدف بشكلٍ أساسيّ استثمار نتائج حرب الخليج الأولى في مزيدٍ إلحاق اقتصادات المنطقة بالاقتصاد الأمريكي، وإدامة تفوُّق إسرائيل استعلائيًّا على ما سواها في المنطقة بل وفي الأقاليم الممتدَّة من أواسط آسيا شرقًا، وحتِّى شواطئ الأطلسي الإفريقيَّة غربًا، ومن جنوب أوربا شمالاً، وحتِّى شواطئ المحيط الهندي جنوبًا؛ وهو –أيْ جمس بيكر- القادم أصلاً من بيئة شركات النفط في تكساس بالشَّراكة مع عائلة بوش، وضمن إطار وجذر تاريخي من العلاقات الشَّخصيَّة بينه وبين العائلة، وضمن تناظر بين أهدافه وأهدافهم كأعضاء في مجالس إدارة شركات النِّفط الأمريكيَّة. وغنيٌّ عن القول أنَّ مجموع تلك الشَّرِكات النِّفطيَّة وشركات المنتجات التكنولوجيَّة -بما في ذلك المنتجة لكافَّة الأجهزة الميكانيكيَّة والتَّجهيزات التِّقنيَّة- لا يمكن النَّظر إليها والتَّعامل معها إلَّا على قاعدة العلائق العمليَّة الوثيقة، من حيث الأصول الرَّأسماليَّة والمساهمات والشَّركات، بينها وبين المجمَّع العسكري الصِّناعي الأمريكي؛ فمجموعة الشَّركات المنتجة لهياكل السيارات والمُحرِّكات والأجهزة الإلكترونيَّة والكهربائيَّة، لا تنتج فقط هياكل سيَّارات ومركبات ومحرِّكات وتجهيزات تقنيَّة للاستخدام المدني فحسب؛ فهي تصنع كذلك هياكل الطَّائرات والدَّبابات والمركبات العسكريَّة ومحرِّكاتها ومحرِّكات الصَّواريخ والطَّائرات والتِّقنيَّات الخاصَّة بكلِّ ذلك؛ لذا فهي جزءٌ أساسيّ من المجمَّع العسكري الصِّناعي الأمريكي. وفي الغالب، فإنَّ أحد أهم دوافع السِّياسة والدِّبلوماسيَّة الأمريكيَّة في افتعال الأزمات وصناعة الحروب وإشعال الحرائق، ومن ثَمَّ محاولةُ إطفائِها هو استثمار كلّ ذلك في إدامة دوران عجلة المجمَّع الصِّناعي العسكري والتكنولوجي الأمريكي العملاق.
ولم يكن جورج بوش الابن أو جورج دبليو بوش –الرئيس الأمريكي الأسبق- آخر أولئك القادمين من بيئة وأسرة الشركات الرَّأسماليَّة العملاقة على اعتبار كونه مديرًا سابقًا في شركات النفط في تكساس كذلك؛ ولن يكون الرَّئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب القادم من وسط عالم المال والأعمال المُتْخَم بأرباحٍ تعدُّ بتريليونات الدُّولارات، ومن أوساط أكبر الشَّركات والمجموعات العقاريَّة والتَّرفيهيَّة العملاقة آخرهم. والَّذي جاءَ مؤخَّرًا إلى المنطقة يطلب بشكلٍ فجٍّ ومباشر سداد دين كلفة الحماية الأمريكيَّة لدول الخليج –كما أعلن عن ذلك بنفسه في أكثر من مناسبة– تلك الكلفة البالغة أكثر من تريليون ونصف ترليون دولار – والترليون هو مليون مليون كما تعرفون- وقد حصل من ذلك المبلغ حتَّى الآن وأثناء زيارته الأخيرة على أكثر من أربعمئة مليار دولار، كما تمَّ الإعلان عن ذلك.
كل هؤلاء جاؤوا من عمق نظام الاقتصاد الدولي الرأسمالي، وما يفرضه من شروطٍ وظروف، والذي صيغ أساسًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واستند فيما استند إليه إلى برنامج ومشروع مارشال لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك المشروع الذي كان في ظاهره مشروعًا أمريكيًّا للاطِّلاع بأعباءِ إعمار ما دمَّرته الحرب، ولكنَّه كان في الجوهر والمؤدَّيات العمليَّة والمنهجيَّة مشروعًا استثماريًّا أمريكيًّا احتكاريًّا بامتياز، استثمرت الولايات المتَّحدة فيه قرابة ثلاثين مليار دولار وجَنَتْ من خلاله حوالي ثلاثمئة مليار دولار، وكان من مفاعيله أنْ تمَّ إلحاق اقتصادات أوروبا باقتصاد الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة طيلة عقود مضت.
وقد استند ذلك النِّظام –الاقتصادي والمالي الدَّوْلاني العابر للعوالم والثَّقافات في غمرة عصر العولمة- فيما استند إليه إلى الشركات العملاقة العابرة لفضاء القارَّات؛ وإلى مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية كروافع لعصر العولمة والخصخصة؛ وإلى مؤسسات التنمية الأمريكية؛ التي تتخذ من برامج الإقراض والتنمية ستارًا للهيمنة والسيطرة على العالم؛ ووسيلة لرهن إرادة شعوب وحكومات العالم الثالث.
بالإجمال؛ إنَّ كل ما نراه من سياسات دولية، ودبلوماسيَّة أمريكيَّة ديناميكيَّة فعَّالة حينًا، واستاتيكيَّة –ثابتة الاتِّجاه– أحيانًا كثيرة؛ ومن ظواهر سياسية؛ وحتَّى من ظواهر دينيَّة متطرِّفة؛ ومن أدواتٍ للحروب الطَّائفيَّة والمذهبيَّة -ومنها القاعدة وداعش وملحقاتهما ومتفرِّعاتهما، وقبل ذلك ظاهرة الجهاد الأفغاني وظاهرة المجاهدين العرب في أفغانستان والشِّيشان فيما بعد- وكذلك التَّحالف الدَّولي المناهض للإرهاب الَّذي أعلنه الرَّئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2013؛ ما هي إلّا ثمرة لتحالف سلطة الشركات مع النفط مع السياسة مع مجموعات المصالح مع توظيف الدِّين بالتواطؤ والشَّراكة مع الحكومات المحليَّة والنُّخَبْ السِّياسيَّة والثَّقافيَّة في منطقتنا، وفي غير مكانٍ من العالم، والَّتي تنشأ وتنمو كطحالب حول مستنقعات مُخلَّفات دورات إنتاج ودورة رأسمال الشَّركات العملاقة الدَّوْلانيَّة الأمريكيَّة والغربيَّة عمومًا، العابرة للقارَّات والثَّقافات والنَّاهبة للأفراد وللمجتمعات الضَّعيفة في أربعة أركان الكوكب.