تثار في هذه الأيام ، وعلى نطاق واسع في وسائل الإعلام ، وفي الأوساط السياسية والفكرية أيضاً مسألة الفصل بين الدين والسياسة ، حتى غدت هذه المسألة أمراً خلافياً بين المنادين بهذه الفكرة والمعارضين لها ، فهل يمكن بالفعل إيجاد مثل هذا الفصل ؟
المنادون بهذه الفكرة يقولون بإمكانية إيجاد مثل هذا الفصل ، ويسوقون على ذلك أمثلة من الواقع السياسي في بعض الدول الغربية ، بينما يشكك المعارضون لها في إمكانية إيجاد مثل هذا الفصل ، حتى أن من هؤلاء من يعتقد أن الدين لو ابتعد عن السياسة فإن السياسة هي التي ستقترب من الدين ، وأظن أنني أميل إلى رأي هؤلاء ، لأن من يعتقد بإمكانية الفصل التام بين الدين والسياسة ، فما عليه إلا أن يقرأ التاريخ ليتبين له أن الأمور لم تكن لتسير على النحو الذي يريد .
فإذا تحدثنا عن الأديان السماوية ، وهذا ما يهمنا في هذه المنطقة ، مبتدئين بالديانة اليهودية ، فإن القائمين عليها لم يكونوا ببعيدين عن السياسة في الكثير من الأوقات ، وذلك ابتداء من كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ ووزيره أخيه هارون اللذين أرسلهما الله تعالى إلى فرعون ليقولا له قولاً ليناًـ قولاً سياسياً ـ لعله يتذكر أو يخشى ، دون أن ننسى العبرة السياسية من قول هارون لأخيه ( إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي)مروراً بـسِيَر ( ملوك إسرائيل ) وتحالفات اليهود في الجزيرة العربية عند مجيء الدعوة الإسلامية ، ثم واقع اليهود السياسي في أوروبا وتأسيس الحركة الصهيونية التي لبست عباءة الدين ، وانتهاء بالأحزاب الدينية اليهودية القائمة الآن في الدولة العبرية.
أما الديانة المسيحية السمحاء ، فإنها وإن كانت في جوهرها وتعاليمها تتجنب الخوض في غمار السياسة ، ولكنها لم تكن بعيدة عن المشتغلين بالسياسة من قياصرة وأباطرة ورجال دين ، ومن ذلك انقسام الكنيستين الشرقية والغربية الذي وإن كان أساسه دينياً إلا أن رجال الدين ـ ولا شك ـ قد اعتمدوا على السياسة في إدارة هذا الانقسام ، ومن ذلك أيضاً اتكاء رجال السياسة على الدين ـ أو على رجال الدين بتعبير أكثر دقة ـ وبتشجيع من بعض الباباوات في الحروب الصليبية ، ومن الأمثلة التي يمكن أن تساق في هذا المجال أيضاً تدخل الكنيسة في السياسة الأوروبية في العصور الوسطى حتى كان بإمكانها أن تسحب الثقة من الملوك والأمراء ، وليست بعض الأحزاب السياسية الغربية في العصر الحديث التي حرصت على تأكيد طابعها ( المسيحي )من خلال أسمائها ببعيدة عن هذا السياق ، ليس هذا فقط بل إنك تجد في الغرب في هذه الأيام من يُلبس أفكاره المتصهينة لبوس الدين المسيحي ـ زوراً وبهتاناً ـ وذلك من خلال ما يطلق عليه ( الصهيونية المسيحية ) والتي يقال أنها سبقت الصهيونية اليهودية .
أما بالنسبة للدين الإسلامي الحنيف ، فعلى الرغم من أن كلمة ( السياسة ) لم ترد في ألفاظ القرآن الكريم ، فإن النصّ القرآني لم يكن عن السياسة ببعيد ، بل إن الكثير من الآيات والنصوص القرآنية تعتبر من جوهر السياسة ومن أساسياتها ، ولتقريب الصورة ، فإن القرآن الكريم لم يتضمن أيضاً كلمة ( الفضيلة ) ، ومع ذلك فإن فيه من الفضيلة ما نعجز عن وصفه.
فهل يمكن لأي منا على ـ سبيل المثال ـ أن ينكر المبدأ السياسي المتمثل في قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) ؟ ومن يمكنه أن يفصل بين السياسة وقوله تعالى على لسان ملكة سبأ ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ) ؟ ولا ريب في أن الرجلين من أهل السياسة يمكن أن يختلفا في الدين أو الطائفة أو العرق ولكنهما لن يختلفا أبداً في قوله تعالى ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) ، فالعدل أساس الملك كما يُقال ، ليس هذا فقط بل أرى أن القرآن الكريم قد رسم للسياسي صورته المثلى حينما خاطب الله محمداً الرسول والقائد بقوله : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) ، ومع هذا فقد عمل كثير من المشتغلين بالسياسة في التاريخ الإسلامي على تحريف الكلِم عن مواضعه ، وحرص بعضهم على أن يستقلوا مركب الدّين الطاهر النقيّ في مستنقعاتهم الملوثة .
لقد كانت المبادئ والتعليمات ( السياسية ) التي وردت في الآيات الكريمة المشار إليها ، وفي غيرها من النصوص القرآنية ، وفي الكثير من الأحاديث الشريفة مناراتتهدي إلى الرشد بعد ظلمة طال أمدها ، وقد كان الدين حينما طبقت تلك المبادئ على أرض الواقع في قمة عطائه الحضاري وحضوره الإنساني ، ومن هنا فإن المشكلة لم تكن في الدين كسياسة تدعو إلى الإصلاح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا ، ولا كنصوص تدعو إلى التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الاثم والعدوان ، كما أن المشكلة ليست في إيقاف الذين في قلوبهم مرض والمنافقينالذين نسميهم اليوم ( الطابور الخامس ) وكذلك المرجفين في المدينة الذين نصفهم اليوم بـ ( إعلام الإفك والفتنة ) عند حدهم ، وذلك كما تشرّع لنا الآية الكريمة في سورة الأحزاب ، ولكن المشكلة تكمن في توظيف الدين من قبل السياسيين واستغلاله في تحقيق مصالحهم أسوأ استغلال ، ومن هنا فإنه لا ضرر ـ كما أرى ـ في أن يدخل الدين ببهائه الرباني عالم السياسة ، ولكن الضرر كل الضرر يكمن في أن تتسلل السياسة بدسائسها المقيتة إلى محراب الدين!