نظريات العلوم السياسية على اختلافها لا تتطرق لأي نظام يقترب من حيثيات نظامنا، حيث الغالبية من الشعب لا زالت في المنفى القسري وحيث السيادة واقع سياسي يتم تجسيده رغم واقع الاحتلال وبالرغم من عدم وجودها على الأرض بسبب الاحتلال العسكري، وحيث النظام السياسي يعاني انقساماً قسم ظهره ومحاولات إقليمية بأدوات محلية للسطو على القرار الوطني لصالح الأجندة الإقليمية التي باتت ترى في المشروع الوطني الفلسطيني عقبة أمام أجندات مستجدة تجعل من العدو التقليدي حليفاً أساسياً لا بديل عنه. لا يوجد ما نقارن أنفسنا به سياسياً أو نحكم من خلال تجربته على ما حققنا من إنجازات وما ارتكبنا من إخفاقات، ما يشكل تحديّاًفريداً لنا جميعاً، حاكمين ومحكومين. وفي ذات السياق، هذا الوضع الفريد والمنفرد بحيثياته يجعل من الشعب الفلسطيني وتقييمه البوصلة والموجه والحكم على نظامه ومجتمعه المدني وقواه الفاعلة.
والحقيقة هي أننا أخفقنا كمجتمع في تحدي التقييم والمحاسبة، خاصة في العقدين الماضيين. أخفقت الفصائل في الحفاظ على مكانتها على الأرض لأنها تمسكت بالإرث ومعلقات الشعر فيما كان وقاومت متطلبات العصر ومتغيراته. وأخفق المجتمع المدني في ترجمة ما ينشده من قيم اجتماعية وثقافية تليق بالشعب الفلسطيني إلى قناعات يمارسها المجتمع بكافة فئاته. وأخفق المثقفون والصحافيون في التواصل مع الرأي العام فأصبحوا يتواصلون مع أنفسهم ولا يقوون على مواجهة الرأي العام الذي أُشبعَ إحباطاً ومفاهيم شعبوية ترفض كل شيء ولا تجمع على أي شيء سوى النقمة واستسهلوا المجاملة والإنشاء على حساب المساءلة. أما السياسيون، فقد أخفقوا في تولي مسؤولياتهم فباتوا إما شخصيات منسلخة عن الواقع أو قيادات تتبنى مواقف حسب رغبة الجمهور، دون الحد الأدنى من الرؤية حول ما يتولون من مسؤوليات. وهكذا، تحول النقاش في الوطن حول القضايا الكبرى والصغرى مرتبطاً بقدرة أي طرف على إحداث أكبر قدر من الضجة وحصد "اللايكات" والمشاركات في الفضاء الافتراضي.
خلال قرن من الزمن أمضيناه في مقاومة الاحلال والنسيان، رسخنا بتضحيات من سبقوا من المثقفين والكتاب والصحافيين والسياسيين فضاءً حراً لا يقبل الوصاية أو القيود وبذلك شكُّل الفلسطيني وما يزال تحديّاً أخلاقياً وسياسياً للأنظمة الشمولية من حولنا لأن كلمتنا الحرة كانت وما زالت جزءاً أصيلاً من نضالنا لحرية الوطن. وبهذا، أصبحت الكلمة الحرة واجباً وطنياً وطريقة المنظومة السياسية الفريدة التي أسسها الشعب الفلسطيني رغم الظروف والمنفى لضمان حيويتها وصواب مسارها.
ينقصنا كثير منن الهدوء والكثير الكثير من الأفكار والحجج بدل الصراخ والمزايدة في كل الشؤون صغيرها وكبيرها. ينقصنا الاعتماد على المعلومة ورفض محاولات اللاعبين الأساسين في حياتنا السياسية على لي ذراع الحقيقة بالشعارات والهروب من المسائلة تحت ذرائع كبيرة وعناوين أكبر.
أزماتنا المركبة والمتراكمة لن تزول بالتمني وهي أيضاً لن تتلاشى بالهروب إلى الأمام أو اللجوء إلى مناورات بهلوانية سياسية لتفادي متطلبات الصالح العام بإنهاء الانقسام وتجديد شرعيات المؤسسات الوطنية والشروع في إنقاذ مشروعنا الوطني مما هو فيه من ترهل وتعثر وما يواجهه من مخاطر. حل هذه الأزمات يتطلب شجاعة الاعتراف بالأزمات ومسؤولية الجميع فيها ويستوجب أيضاً جاهزية من الأطراف الوطنية كافة أن تواجه حجمها الحقيقي في الساحة السياسية وأن تقبل بحكم الشعب الفلسطيني الذي من واجبه أن يتحمل مسؤولية الفصل في شأن الحكم وتحديد الحاكم ومسار الشأن العام.
رغم كل ما يعتري انعقاد المجلس الوطني من تحديات وعثرات، إلا إنه يشكل بارقة أمل بإمكانية إعادة الأمور إلى نصابها. مبررات رفض عقد المجلس الوطني كثيرة ويمكن لكل فصيل أن يقدم اعتراضه تحت عناوين كبيرة من قبيل عدم توفر الإجماع وعدم توفر الظروف المواتية. في النهاية، كل هذه المبررات والشعارات لا تخدم سوى استمرار الشلل الحالي وحجز الشعب الفلسطيني ومستقبله رهينة حسابات الماضي وأزمات الحاضر. نستحق أفضل من هذه الحسبة محدودة الأفق. نستحق من الفصائل السياسية والمجتمع المدني لحظة صراحة مع الذات وخطوة شجاعة بحجم الوطن. إما أن تطرحوا حلولا قابلة للتطبيق أو أن تتحملوا مسؤولياتكم ضمن ما هو متاح في الأطر الوطنية الموجودة على علاتها. بعد عشر سنوات من السقوط في سحيق الانقسام والعار الوطني، لا يملك أي فصيل الاعتقاد بامتلاك حق النقض أو التمنع دون طرح حلول مجدية تتخطى حدود حصته في الكعكة الوطنية. الفصائل الفلسطينية، صغيرها وكبيرها، عليها تحمل المسؤولية التي ترتبت نتيجة اخفاقاتها المتراكمة ومؤسسات المجتمع المدني عليها أن تتحمل مسؤولياتها أيضاً وأن تترجم ما تروجه من قيّم اجتماعية وسياسية وثقافية إلى برامج سياسية واجتماعية والضغط على القوى السياسية لتبنيها. كلهم شركاء في الأزمة وآن الأوان أن يشتركوا في بداية حلها.