إذا أخذنا هذا الأمر الإلهي المختزل بكلمة "اقرأ" ضمن سياق الآية الكريمة، فإنَّ الدعوة الإلهية للنبي كانت أن وسّع صدرك للعلم وابدأ بتناوله.
لا يمكن لنا أن نحدّ من المعارف، وأن نستدركها من خلال فعل "اقرأ " ضمن المفهوم الضيق، أي أن يبقى الفعل مرتبطًا بالمفعول به الأول وهو هنا الكتاب، المجلد، ما خط بقلم أو بنحت. فالقراءة وسيلة الإدراك الأولى، والوسيلة بذاتها غير محدودة المعالم والاتجاهات رغم اختزالها بمسمى وظيفي يبدو للعامة أنه محصور بالذين يجيدون الكتابة والقراءة.
القراءة بمنظورها الأوسع هي الدعوة للادراك بتطوير أدوات الأخير، والتي لا تعتمد على البصر فحسب، بل على كل ما يتعلق بالحواس الخمس والوعي والعاطفة، ففيما الفلاح يقرأ علامات الأرض بيديه وعينيه وأنفه، دون أن يستعين بكتاب أو بمرجعية نصية تدله على أحوالها. الأم تقرأ بعاطفتها، والعالم الفيزيائي يقرأ بالتجريب والملاحظة، والمؤمن يقرأ بقلبه وهكذا دواليك.
القراءة هي علاقة ثنائية بين القارئ والنص، أيًّا كان نوع النص أو فكرته، فقد يكون القارئ رجلاً، والنص امرأة، والعكس جائز بطبيعة الحال، لكن هذه القراءة هي استكشاف لدواخل الآخر من خلال لغة لا تعتمد بالضرورة على الكلام، بل على الأفعال وردودها، على الجسد واستجاباته، على البيئة وتأثيرها، على التاريخ الجمعي وترجمته الفردية، على الملاحظة بشكل عام والتي ترتبط ارتباطًا عميقًا بالوعي ودرجاته وتمايزه بين الطرفين.
أما عن القراءة بالمعنى الحرفيّ، وأقصد فعل القراءة، فنحن نمارس هذا الفعل عفويًّا في معظم تفاصيل حياتنا وشتى الطرق. بيد أننا لا نعرف أن ما نقوم به هو فعلاً فعل قراءة. في كل سؤال يطرق باب جهلنا، تسوقنا النزعة إلى المعرفة للبدء بفعل القراءة، فبمجرد فتح صفحة الكتاب نطلق العنان للسؤال، ونبدأ بالقراءة الداخلية لما نعرفه عن موضوع التساؤل، ونحلل ما نستطيع مستعينين بمخزوننا الشخصي من المعارف. ثمَّ نبحث عن قراءة أوسع لدى الآخر، المختص أو غير المختص، وبهذا نحيل سؤالنا إلى القراءة الخارجية، التي تغذّي المعلومات التي لدينا وتغنيها، وتعيد توجيهها إلى زوايا جديدة في القراءة الداخلية.
القراءة دعوة للبحث والتساؤل، وأهم ما علينا إدراكه والعمل عليه، هو تطوير أداوتنا البحثية لما يناسب موضوعنا البحثي، دون إغفال للقراءات الداخلية والخارجية المتعددة الأوجه والتي يجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار.
أن تتأمل في شيء، أن تحاول الحصول على معرفة بالموضوع المتأمل به، يعني أنك تقرأ هذا الموضوع. وكل ما سبق يحيلني لأختم بأن العالم، الكون، الإنسان، لا يزال يحتاج لأعمار فوق أعمارنا جميعًا لنستطيع الوصول لقراءة وافية وشاملة له. إنّ الإنسان لا يتوقف عن القراءة حتى يموت، لكن الوصول للمعرفة الحقيقية يحتاج إلى شحذ أدواتنا المعرفية والإدراكية؛ ليكون لكلّ هذه القراءة الحياتية جدوى ومعنى دون هدر لسنوات من القراءات الضائعة.