الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

زواجُ وطلاقُ الملك هنري الثَّامن والحكم بالإعدام الرَّحيم على المُفكَّر الإنساني توماس مُور !! بقلم: رائد دحبور.

2017-08-31 12:31:07 PM
زواجُ وطلاقُ الملك هنري الثَّامن والحكم بالإعدام الرَّحيم على المُفكَّر الإنساني توماس مُور !!
بقلم: رائد دحبور.

مقالات الحدث

عندما نقرأ تاريخَ وَسِيَرِ روَّاد فكر المدرسة الإنسانيَّة وحركة الإصلاح الدِّيني في مطلعِ القرن السَّادس عشر ومع مطلَعِ عصر النَّهضة في أوروبَّا، أو نقرأَ بعضَ كُتُبِهِم، ككتابِ ( يوتوبيا ) أوْ كتاب ( الرَّاحةُ في زمن المحنَة ) للمفكرِ والكاتبِ النَّهْضَويِّ الإنجليزي توماس مُور ( 1478م – 1535م )، أو كتاب ( في مَدْحِ الحماقة !! ) لــِصديقه الهولندي " أرازموس "في ذاتِ الفترة - وقد كان كتاب في مدح الحماقة أصلاً مجموعةً من الرَّسائل الَّتي بعث بها أرازموس لصديقه توامس مور -  فإنَّنا نجِدُ فيها أراءً وتوصيفاتِ ونظريَّاتٍ لا تخصُّ ذلك العصر فحسب؛ بل إنَّها تصلُحُ لكلِّ العصور، ولذلك وُصِفَ " توماس مور " بَرَجُلِ كلِّ العصور؛ خاصَّةً مع رائِعَتِه، كتابُ ( يوتوبيا ) في جُزْئَيْهِ الأوَّل والثَّاني.

 

وكتابُ ( يوتوبيا الأوَّل والثَّاني ) جاءَا على غرارِ المدينة الفاضلة لأفلاطون، وآراءِ أهل المدينة الفاضلة للفارابي، وكتاب مدينة الله للقدِّيس أغسطونيوس.

 

اجتَرَحَ توماس مور مصطلح يوتوبيا من اللَّاتينيَّة – وكانت اللغة اللَّاتينيَّة في ذلك العهد لغة الفكر والثَّقافة والمعرفة، وقد تُرْجِمَ الكتاب فيما بعد إلى الإنجليزيَّة والرُّوسيَّة وغيرها من اللغات – ويوتوبيا تعني باللَّاتينيَّة ( اللَّا مكان ) وقد قَصَدَ ( مُور ) من ذلك أنْ يقول ومن خلالِ عنوان كتابه:

 

أنَّ تلك الجزيرة أو مجموعة الجزر الَّتي أسماها ( يوتوبيا ) الواقعة بحسَبِ وصفه الخيالي في نصف الكرة الجنوبي – وللمقاربة فربما قصد بذلك مجموعة الجزر التي تُشَكِّلُ اليابان اليوم - وبما يسودُها من عدالةٍ وحريَّة ومساواةٍ وخير موجودَةَ وستظَلُّ موجودةً في اللَّا مكان واللَّازمان، طالما ظلَّ البشر نهباً لسطوَةِ مشاعر الأنانيَّة  والاستئثار، ولعوامل ومفاعيل الشُّعور الفئوي أو النَّخبَوَي بالاستعلاءْ.

 

لقد عبَّرَ " مُور " في أكثرِ من مناسَبَةٍ عن رأيه في أنَّ الدَّولَةَ ما هي إلَّا تعبيراً عن مصالح الطّبقة الحاكمة والمجموعات المرتبطة بها، وأنَّ مجموعةَ النُّبلاءِ الكثيرين في بلاط الملك هنري السَّابع والثَّامن في إنجلترا وغيرها، ما هم إلَّا مجموعة من الطُّفيْلِيِّين الَّذين يتغذُّون على نهبِ الشَّعب والطبقات المُهمَّشة في المجتمع، وأنَّ كثيراً من الرُّهبانِ والقساوِسة منافِقون يعملون على تحقيق رغبات ونزوات السُّلطة وملوك أوروبَّا من خلالِ إصدار الفتاوى الَّتي تحقق وتلبِّي رغبات الحكَّام وتحقق مصالح الرُّهبان الدُّنيويَّة بغلافِ قُشورِ الوَرَعِ الزَّائف.

 

كانَ الكتاب الأوَّل من يوتوبيا بمثابَةِ وصفٍ واقعيٍّ لأوضاعِ إنجلترا وأوروبا الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة البائسة في ذلك العهد، وكان كتابُ يوتوبيا الثَّاني – الَّذي يصِفُ الحياة المثاليَّة – بمثابَةِ المرآة الَّتي ينبغي على أوروبَّا أنْ ترى نفسَها وصورَتها فيها؛ كي تُدْرِكَ مقدارَ ما هي فيه من شقاءٍ بفعلِ استبداد أنظمتها السِّياسيَّة، وبفعلِ استبدادِ وسطوة الكنيسة الكاثوليكيَّة وتخلُّف وانحراف منظوماتها مجتمعاتِها الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة، وكذلك تطبيق القوانين والعدالة على نحوٍ تَعَسُّفِيٍّ . لكن وعلى خلافِ حركة الإصلاح الدِّيني الَّتي قادها مارتن لوثر في تلك المرحلة، والَّتي أدَّتْ في نهاية المطاف إلى الانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكيَّة وتأسيسِ الكنيسة البروتستانتيَّة؛ فقد كانَ توماس مور يدعو إلى إصلاحِ الكنيسة الكاثوليكيَّة من الدَّاخل دون الانشقاقِ عنها، وتأسيسِ كنيسة جديدة.

 

المُهِمْ... عندما نقرأ كل ذلك نجدُ أنفسَنا أمام حقيقةِ أنَّ التَّاريخ بالفعل – وفي جانبٍ مهمٍّ منه – ما هو إلَّا مجموعة الحالات النَّفسيَّة والانفعاليَّة والرَّغْبَوِيَّة للأفرادِ الَّذين أثَّروا بحكمِ موقعهم السُّلْطَوي في مساره، ويتَّضِحُ لنا مقدارَ ما كانَ من أثَرٍ للسلوكِ والرَّغبات الفرديَّة والنَّخبَوِيَّة في تحديدِ سياقاتِه المُتعرِّجة أو اللَّولَبيَّة ووصولِهِ إلى محطَّاتٍ كانت حاسِمَةً ومفصليَّة في توجيه حركة الأمم والشُّعوب، وفي تحديد مصائر مجتمعاتٍ بأكمَلِها، وإعطاءِ حَقَباً زمنيَّة طابَعَها وهويَّتِها.

 

وعندما نقرأُ توماس مور أو أرازموس في تلك المرحلة؛ فإنَّنا نجِدُ أنَّنا نقرأُ جزءَاً مُهمَّاً من تراثهم في سياقِ ما عُرِفَ بشرور أو محنة شهر فبراير عام 1516م في لندن على سبيل المثال - حيث قام مجموعَةٌ من النُّبلاءِ في لندن بتحريضِ أهالي لندن وقيادتهم في حملَةِ تنكيلٍ وطَرْدٍ شَرِسَةٍ بحقِّ الأجانب، والقادمين إليها من الأرياف، وقد كانَ لتوماس مُور دوراً حاسِماً في إيقافِ تلك الأحداث الأليمة – وكذلك نقرأها في سياقِ ما عُرِفَ بمسألةِ المَلِكِ الكُبرى في إنجلترا، وهي المتعلِّقَةِ بإصرارِ الملك هنري الثَّامن على تطليقِ زوجَتِه الملكة كاثرين برغمِ معارضة الكنيسة الكاثوليكيَّة لذلك. ووقوف توماس مُور مُعارِضاً للملك في ذلك لأنَّ الملك ليسَ لديه أسباباً مقنعة تدفعه لتطليق الملكة الَّتي كانت تحظى لدى توماس مور بالاحترام والتَّقدير، ولِمَا قد يترتب على تطليق الملكة كاثرين من أضرارٍ تلحق بإنجلترا كون الأخيرة عمَّةُ ملك إسبانيا أقوى ملوك أوروبَّا حينذاك، في ظلِّ نُذُرِ حربٍ تلوحُ بين إنجلترا وفرنسا.

 

ففي بدايةِ الرُّبع الثَّاني من القرن السَّادس عشر –  وتحديداً ما بين عامَيِّ 1528م  و 1535م- أشَغلَ ملك انجلترا – هنري الثَّامن – الرَّأي العام في إنجلترا وفي عموم أوروبا بمسألَةِ طلاقه من زوجته الأولى الملكة " كاثرين داغوار " وبمسألةِ زواجه من امرأةٍ أُخرى وقع في غرامِها وتُدْعى " آن ألبِنْ " فقد عارضت الكنيسة الكاثوليكيَّة الإنجليزيَّة – التَّابعة للكنيسة الكاثوليكيَّة في روما –  طلاق الملك للملكة؛ لأنَّ المذهب الكاثوليكي لا يُبيح ذلك الطَّلاق. وقد عُرِفَتْ تلك المسألة – أيْ مسألة طلاق الملك من زوجَتِه الأولى ووقوعه في غرامِ آنْ – حينها لدى الرَّأيِ العام الإنجليزي والأوروبِّي بمسألةِ الملك الكُبرى؛ لأنَّها كانتْ مدعاةً لتغييرِ سياسةِ الملك " هنري الثَّامن " من سياسةٍ إصلاحيَّةٍ متسامحةٍ مع المجتمع ومع معارضيه – بعد عهدِ سلفه الملك هنري السَّابع الاستبدادي – إلى سياسَةٍ مُتَصَلِّبَةٍ شديدةِ القمع تجاه كل من عارضَ طلاقه من الملكة كاثرين، وكانت تلك المسألة قد حددت ومنذ ذلك الوقت علاقة الكنيسة الإنجليزيَّة الكاثوليكيَّة بكنيسةِ روما حيثَ قامَ الملك هنري الثَّامن بفصلها عن كنيسةِ روما وقام بتسمِيَةِ نفسه رئيساً للكنيسةِ الإنجليزيَّة بدلاً عن البابا.

 

كانَ البابا والكنيسة الكاثوليكيَّة قد أباحَا للملك " هنري الثَّامن " استثنائِيَّاً زواجه من " كاثرين " الَّتي كانت خطيبَةً لشقيقِ الملك الَّذي تُوَفِّيَ قبلَ أنْ يتزوَّج منها.. وقد كانت " كاثرين داغوار " عمَّةً للملك " تشارلز " ملك إسبانيا  أقوى ملوك أوروبا في ذلك الوقت. وكانت المُصاهرة بين ملوكِ أوروبا فيما بينهم وكذلك بينهم وبين قياصرةِ روسيا أحد وسائل عقد التَّحالفات لتوفير التَّكافل وعهود الحماية بين الأسر المالكة في أوروبا، حتَّى أنَّه يمكننا القول أنَّها كانت – أيْ المُصاهرة بين الأُسَرِ المالكة – قد طَبَعَتْ جانِباً مُهمَّاً من تحديد اتِّجاهات إدارة السِّياسة الدَّولِيَّة في ذلك الزَّمن.

 

بعدَ أنْ وقَعَ " هنري الثَّامن " في غرامِ " آنْ ألْبِنْ " طلَبَ من الكنيسةِ ومن البابا مُراجعَةَ أمرِ شرعيَّةِ زواجه من الملكة كاثرين أصلاً؛ مُدَّعِيَاً أنَّ البابا قد أخطاَ وتجاوزَ الشَّرائع الكاثوليكيَّة بسماحِهِ لَهُ بالزَّواج من خطيبةِ شقيقه المُتَوَفَّى . وكانت " كاثرين " قد أنجَبَتْ له ابناً ومجموعةٍ من البنات، لكنَّه ادَّعى أنَّ الابنَ الَّذي أنجَبَتْهُ له غيرَ جديرٍ بولايةِ العهد.

 

بَرَغمِ أنَّ توماس مور كان مقرَّباً من الملك هنري الثَّامن بعدَ أنْ شَرَعَ الأخير في بداية عهده بتشجيع حركة إصلاحٍ في الكنيسة وفي تشجيع حركة ترجمة التُّراث اليوناني القديم والجانب المهم والمفيد من الآداب اللَّاتينيَّة – وذلك كان جوهر اهتمام روَّاد الحركة الإنسانيَّة وحركة النَّهضة الأوروبيَّة ومنهم توماس مور بطبيعة الحال – إلَّا أنَّ مور وبرغم اتِّخاذ الملك هنري الثَّامن له مستشاراً، وبرغم تقلُّده لمناصب عديدة في لندن ومنها القضاء وكذلك كونه عضواً في مجلس العموم وحصوله على لقبِ " سير " برغم كلِّ ذلك فقد بقي توماس مور على مسافَةٍ من الملك تسمحُ له التَّعبيرَ عن آرائِه دون مجاملة أو مُحاباةِ للملك ولطبقةِ النُّبلاءِ في بلاطه. وقد كان شديد التّمسُّك بآرائه ومعتقداته حول ضرورة تحقيق العدالة الإنسانيَّة وعدالة السُّلطة.

 

في عام 1528 عارض توماس مور – كما أسلفنا – الملكَ في مسألة طلاق الملكة ورفضَ طلَباً للملك بقيادَةِ حملة استطلاعٍ وتأييد في أوساطِ المفكِّرين والمصلحين لصالح دعم مسالة الملك الكبرى في مواجهة الكنيسة الكاثوليكيَّة الرَّافضة لطلاق الملكة، كما عارضَ الملك في تسمية نفسه رئيساً مطلقاً للكنيسة الإنجليزيَّة والانفصال عن كنيسة روما؛ فقامَ هنري الثَّامن بوضعه في سجنِ برج لندن لمدَّةِ عامين تقريباً، وهناك كتب مور كتابه - الرَّاحة في المحنة - وفي عام 1535 حَكَمَ عليه الملك بالإعدام شَنْقاً وبتمزيقِ أحشائه بعد موته، لكنَّهُ عادَ وخفَّفَ الحُكم إلى إعدامِه – بصورَةٍ رحيمة !! – وذلك بالاكتفاءِ بقطْعِ رأسِه وفصله عن جسَدِهِ دونَ تمزيقِ أحشائه، وبرميِ رأسِه في نهرِ التَّايمز كما كانت العادة.. وهذا ما كان فعلاً.. وفي عام 1935 – أيْ بعدَ إعدام توماس مور بأربعة قرون – أعادتْ له الكنيسة الإنجليزيَّة اعتبارَهُ وتمَّ منحه لقَبَ قسِّيسْ !!.