مقالات الحدث
" من المؤكد أنه من إبداع أحد المجانين؛ وإلا ما من إنسان سوي يعمد إلى عمل تمثال بجسم إنسان ورأس وحش".
( عبد الخالق الركابي/ ما لم تمسسه النار) في وقت كنت أقرأ فيه رواية عبد الخالق الركابي " ما لم تمسسه النار" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر العام الفائت، لفتت انتباهي مقالة مطولة فتحت ملفات نفسية لمبدعين تركوا من الإبداع ما يستحق أن يجعلهم من كبار صانعي التاريخ ومشكّليه، مع أنهم وصفوا بالجنون، فبتهوفن مثلا كان مصابا بنوبات هوس تدلل على اضطرابات نفسية خطيرة، قيل إنها ساهمت في تعزيز حالات الإبداع الموسيقي التي اشتهر بها، ولا أدل على هذا الربط من فرجينيا وولف التي عانت اكتئابا شديدا أدى إلى انتحارها غرقا، لكنها ظلت تُذكر باعتبارها واحدة من أشهر الأديبات في العالم، ولعلنا لا نبتعد كثيرا لو تذكرنا في هذا السياق شخصية البطل الكاتب المبدع في رواية " النافذة السرية" التي انتهت بانتحاره، وبالمثل فإن فان غوخ يحضر مثالا حيا لأعراض مرض الفصام الذي رافق عبقريته الفنية.
عودا للرواية التي بدأت بها مقالي، فإن بطل عبد الخالق الركابي ( نديم) يدخل في إسار ثنائية الجنون والإبداع التي نتحدث عنها، فما إن نمضي في الرواية قليلا حتى ندرك أنه من أولئك الذين لازمتهم وصمة الجنون، وأنه كان محتجزا في مستشفى الأمراض العقلية وسط مجانين جيء بهم من شتى المدن العراقية ليحشروا في مصح قد لا يصلح أن يكون زريبة للحيوانات، كما نعرف عنه أنه كان قد مرّ بأكثر من تجربة مريرة وغريبة في حياته، عدا إصابته بالصرع الذي توارثه عن والده.
وهو ما جعله معروفا منذ صباه بتحفظه الدائم وعزوفه عن البشر وعن الكلام، إلا أنه رغم هذا كله ينجح في أن يكون ذلك النحات الذي يتقن صناعة التماثيل على نحو مذهل أعانه على التعايش حتى مع المجانين من حوله، وهو ما يحيله السرد إلى موهبة ظهرت عليه أعراضها منذ الطفولة، وكانت في الوقت نفسه مثار استياء والده وامتعاضه من تلويثه يده بمادة الطين القذرة. وتشاء الأقدار أن يستعيد هذه الموهبة ويقوم بتفعيلها في مستشفى المجانين حين يلتقي نحاتا يعينه عليها، وما هو إلا وقت وجيز حتى نجده ينهال بمطرقته على الصخرة المراد نحتها لتحرير التمثال الحبيس فيها، وهو ما وجد فيه عزاءه، ومبرره لمواصلة الحياة، ولو إلى حين.
بل وتذهب الرواية إلى أبعد من هذا حين تصور لنا ( الراوي البطل) منساقا ومصرا على زيارة مستشفى المجانين بحثا عن ( نديم) يتكبد المشاق كي ينقل تجربة مع الجنون رأى فيها أمرا استثنائيا لا يجوز التفريط به.
ما يهمنا هنا أن ( نديم) يواصل عمله بالتماثيل بعد خروجه المستشفى، لتكون هذه التماثيل التعبير الأمثل في سنوات انفراده الطويلة في بيته الموحش عن الحالة النفسية التي اختلطت بشعوره بالذنب حين أغضب والده وكان سببا في إصابته بجلطة دماغية أودت بحياته. جدير بالذكر هنا أن ما تقدمه الرواية حول نديم يأتي مؤتلفا مع ما يقال من أن المبدع حالة خاصة، من حيث تفرده بطرق تفكير خارجة عن المألوف لا تستوي والحياة اليومية الروتينية، بل إن المبدع أبعد ما يكون عن النمطية، لذلك فإنه محارَب من المجتمعات الجاهلة، فلا عجب إذن لو رأينا ( نديم) يعاني من والده الذي حارب موهبته في النحت، وعارض بكل قوته بعضا من الكتب التي يقرؤها، وعلى الأخص " ألف ليلة وليلة" بنسختها الشعبية غير المهذبة.
ليس هذا فحسب، بل ونجده وقد وقف له بالمرصاد بسبب عزوفه عن استخدام اليد اليمنى في الكتابة، وبسبب إصراره على ارتداء الدشداشة بدلا من البنطلون، ليستوي مع هذا إنسانا خارجا عن المألوف، وهو ما عبّرت عنه تماثيله المتميزة بنحالتها واستطالتها التي عكف عليها ( نديم) في بيته الموحش، والتي اقتربت كثيرا من أسلوب النحات السويسري جياكومتي، لينتفي مع هذا سؤال المتعجب " كيف يكون مجنونا من يبدع كل هذه المنحوتات الرائعة؟" والحق أن ( نديم) كان يتمتع بحساسية مفرطة جعلته يلاحظ ما لا يلاحظه الآخرون، ويعالج بطريقة مختلفة عنهم.
ولعلي أحيل هنا إلى دراسة أجراها مركز " كارولينسكا" السويدي تظهر علاقة لافتة ما بين بعض الأمراض النفسية ومواهب متعلقة بالفن والعلوم والآداب. عند هذه النقطة هل بوسعي القول إن من الفنون ما يختبئ وراءه شيء من جنون؟!!