الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عندما تُهيمن الأيديولوجيا على أخلاقيات الإعلام !! محمود الفطافطة

2014-11-08 11:41:43 AM
عندما تُهيمن الأيديولوجيا على أخلاقيات الإعلام !!
محمود الفطافطة
صورة ارشيفية

يُستخدم الإعلام في عصرنا الحاضر في إذكاء الفتنة وإيقاد الحروب مثلما يُستخدم في تماسك المجتمعات وتحقيق التنمية. ومثلما أنه يُوظف في التنوير الثقافي فإنه قد يُشكل أحد أهم الأدوات في الصراع بين الأفكار والأيديولوجيات عبر التضليل والتعتيم والتشويه.

التناقض المطلق في هذا الاستخدام مرده إلى الفرق بين مفهوم الإعلام كمهنة وأخلاقيات وبين واقعه كممارسة وتأثيرات . فعندما يقوم الصحافي بمسؤولية الانتقال من مهمة نقل المعلومة ، إلى صناعة المعلومة لتشكيل الرأي العام عبر مبدأ التعبير الصادق والأمين للرأي العام ، ومن ثم الالتزام بمسؤولية النقد والتقويم وتوسيع دائرة الحوار وتبادل الرأي فإن هذه المسؤولية تتوسع لتأخذ رسالة تاريخية سامية من خلال إطلاق دعوات الإصلاح والدفاع عنها وضمان استمرارها باتجاه الهدف المحدد.

في المقابل؛ فإن الإعلامي الذي يُصبح أداة بيد السلطة السياسية أو الحزب وغيرهما ، يبرر لهم خطواتهم ويُشرعن سياساتهم ومواقفهم سيساهم في تزييف الحقائق ولا يلتزم بأخلاقياته المهنية الموضوعية في البحث عن الحقيقة. وما بين توزيع الهيمنة بين سلطة تملك أدوات القمع والرقابة، ومال سياسي، يسعى إلى تأمين مصالحه وغاياته بالمساومة أو بالتفاهم مع السلطة فإن الإعلام يُحاصر لتتداعى المصداقية تحت ضغط مزدوج يصعب الخلاص منه.

وبالحديث عن العلاقة بين الأيديولوجية والإعلام يجب التأكيد، بداية،  على أن الإعلام ليس علماً ينبغي فصله عن الأيديولوجيا، فعالم الصحافة هو عالم أيديولوجي بكل ما في الكلمة من معنى . والبحث عن صحفي بدون أيديولوجية ، كالبحث عن سياسي يتعامل مع السياسة كأنها بحث علمي. ولكن المهم ، هنا، يكمن في قدرة هذا الصحافي على تحييد الأيديولوجية حيث يلزم، وعدم الخجل بها أو سترها حيث لا يلزم.  

وعندما نتطرق إلى تأثير الأيديولوجية في وسائل الإعلام العربية نجد كثيراً من الصور التي تمارسها هذه الوسائل لإخفاء الوقائع التي لم يحن وقت إبرازها  من وجهة نظرها، وتبرر الانتقائية التي تؤكد صحتها، وتبرر ليّ الحقائق في خدمة هذا الهدف أو ذاك. هذه الصور تتوجه بشكل عام إلى تفضيل العرض والرأي على الخبر ، والشكل على المضمون ، والإثارة على درجة الأهمية، والسجال على المعلومة، والابتعاد عن التحقيق الصحفي الجدَي الذي يبقى السّمة المميزة للإعلام الحر.

وبالانتقال إلى تأثير هذه الأيديولوجية على أداء الإعلاميين الفلسطينيين فإن الحالة لم تختلف كثيراً عن المشهد الإعلامي العربي، حيث إن الإعلام الفلسطيني تعرض ولا يزال إلى استهدافٍ ممنهج من قبل الاحتلال بهدف تحييده عن ميدان المواجهة أو إضعافه وشل إمكاناته باعتباره وسيلة هامة في تعزيز الوعي والنضال الوطني. في مقابل هذا الاستهداف الإسرائيلي فإن توجه معظم وسائل الإعلام الفلسطينية للعلاقة أو الشراكة مع رأس المال السياسي والحزبي والاقتصادي ، تاركة للمواطن دور المتفرج والمستهلك دفعه للإعراض عن متابعة هذه الوسائل سيما وأنها تفتقر إلى ملكية مستقلة أو هوية واضحة أوتغطية إخبارية عادلة  ومتوازنة . في هذه الحالة لم يستطع الإعلام الفلسطيني بناء رأي عام  قوي ومتماسك قادر على إثراء المشهد المجتمعي والواقع السياسي والاقتصادي بعناصر القوة والريادة والتنمية المستدامة .

فالسياسات الإعلامية الفلسطينية تشكو من انفصامٍ حاد بين الغايات والإمكانات وبين الشعارات والممارسات ، والعجز عن تحقيق أي نوعٍ من التكتل الإعلامي  القادر على مواجهة هيمنة السياسة وسطوة الاقتصاد. تجليات هذا العجز عديدة يتمثل بعضها في طابع التعتيم والانحياز والتهميش ، وإفراغ مبدأ حرية الرأي والتعبير والنشر من مضامينها بعباراتٍ  تذيلها ، من قبيل " بما لا يتعارض مع المصلحة العامة "، " وبمقتضى القانون " ، وكأن القانون قد أصبح في بعض ديارنا فوق الدستور.

هذا العجز تتضاعف صوره في ظل وجود صحافة رسمية يعتبرها البعض مثالاً نموذجياً لصحافة الولاء، وإذاعات موجهة تذيع ولا تُسمع، ووكالات أنباء ترسل ولا يستقبلها إلا القليل . هذا كله أدى إلى غياب الإعلام عن لعب دور حاسم في عملية التنمية والوعي والتغيير المطلوب.  بكلماتٍ أخرى : هذا الإعلام لم يرتفع لمستوى الرسالة المنوط بها تعميق وعي المواطن وإشراكه في التفاعل وإسهامه في البناء الجماعي . فصناعة الإعلام تمّ تحويلها من صناعة كثيفة الإبداع إلى صناعة تقليدية كثيفة رأس المال وهذا ما أدى إلى فتور عدد كبير من الجمهور عن متابعة  هذه الوسائل وتوجهه نحو وسائل إعلام خارجية لاستقاء المعلومات والأخبار من خلالها.

وبنشوب الاقتتال الأيديولوجي بين حركتي فتح وحماس وما نجم عنه من انقسام سياسي وجغرافي وديمغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة برز بشكلٍ واضح وصادم الانقسام العمودي في البنية السياسية والأيديولوجية الفلسطينية . وزيادة على ذلك فقد ساهم الانقسام ، وعن طريق الإعلام المُسيس حزبياً ، في إضعاف الثقافة الشعبية، والهوية الوطنية، والتوافقات الاجتماعية، وأنماط الحياة الفلسطينية . فتواصل الانقسام يعني عدم لجم الإعلام التحريضي والإبقاء على فاعليته التدميرية، وتعميق الهوّة بين بيئتين سياسيتين واجتماعيتين.

وقد كان الإعلام المرئي والإلكتروني الأكثر " تورطاً " في الاستقطاب والانحياز خلال فترة الانقسام لتصبح الموضوعية والمهنية أول الضحايا الُمداسة في خضم التطاحن الإعلامي والسياسي ليُجهز ، بالتالي، على كل مساحات الاستقلالية التي كان من الممكن أن تنشأ وتخلق فضاءات لإعلام مختلف قائم على المهنية والحيادية والنزاهة.

أما بخصوص الإعلام المكتوب فقد انحازت كل من جريدتي " الأيام " و" الحياة الجديدة " إلى " فتح " والسلطة الفلسطينية في رام الله، فيما انحازت صحيفتا " فلسطين"  و" الرسالة " في قطاع غزة إلى " حماس" ، من دون أدنى تردد.  أما صحيفة " القدس " فقد تموقعت في موضعٍ رمادي بعض الشيء، واتبعت خطاً تحريرياً أكثر اتزاناً وموضوعية إذا ما قورنت بالصحف الأربع وإن كان في المجمل العام قريب من " فتح" والسلطة .

وتأسيساً على ما سبق، فإن العلاقة بين الرأي والخبر غير واضحة المعالم في الكثير من وسائل الإعلام الفلسطينية. فعادة ما يقع الصحفيون في الخلط بين الالتزامات المهنية والخلفيات أو التوجهات الأيديولوجية عند صياغة موضوعاتهم بعيداً عن الالتزام بأخلاقيات المهنة والرسالة الإعلامية . في هذه الحالة تُصبح الحيادية والموضوعية في الصحافة موضعا إشكالياَ ومدخلاً للجدل في ظل تناقض الروايات والمصطلحات التي تمثلها الأطراف المتصارعة.

أن التحدي الذي يواجه الصحفيين الفلسطينيين، في ظل تراجع مصداقية الوسائل الإعلامية، هو كيف يمكن لهم أن يزيدوا من هذه المصداقية، وكيف يمكن أن يحصلوا على ثقة الجمهور؟، فدراسة علم أخلاقيات الإعلام، وتطوير هذا العلم، وتحقيق التضامن المهني للمحافظة على أرفع المعايير المهنية والأخلاقية يُشكل خطوة مهمة نحو ارتفاع منسوب جودة المخرجات الإعلامية ومصداقيتها .

إن مستقبل الإعلام يعتمد على عملية تغيير شاملة يعود فيها الإعلام لمخاطبة المتلقي كمواطن وليس كمستهلك". هذا لن يتحقق إلاّ بالعمل على إعادة بناء العلاقة بين الصحافة والجمهور شريطة أن تقوم على معايير أخلاقية، وعلى التوازن بين حاجة وسائل الإعلام للتوزيع وتحقيق الأرباح، وحاجة الجمهور للإعلام كأداة يحصل من خلاله على المعرفة، وعلى المناقشة الحرة للقضايا المجتمعية.