ليسَ من الطَّريف تناول ما يقوله البروفيسور " مُردخاي كيدار " في أكثر من مناسبة حول رؤيته للحل النهائي مع الفلسطينيين، ومقترحاتِه حيال ذلك، بما في ذلك اقتراحه لفكرة إنشاء إمارات فلسطينيَّة في مدن الضِّفة الغربية على أساسٍ عشائري، وإبقاء المناطق الرِّيفيَّة الفلسطينيَّة تحت سيطرة إسرائيل إلى أبد الآبدين – كما يقول – مع إمكانيَّة عرض المواطنة الإسرائيليَّة على سكَّان تلك القرى إن رغبوا في ذلك. ويرى كيدار أنَّ هذه المقترحات والأفكار تمثِّل البديل العملي والواقعي عن فكرة حل الدَّولتين أو الدَّولة الواحدة.
ليس من الطَّريف ذلك لأنَّ البروفيسور مُردخاي كيدار ينتمي إلى النخبة المفكرة في إسرائيل وإلى طبقة الإنتلجنسيا الإسرائيليَّة المؤثِّرة؛ فهو مدير مركز الدِّراسات الإستراتيجيَّة في جامعة بار إيلان، ومركز الدراسات هذا في جامعة بار إيلان يُعتبر أحد المؤسسات الأكاديميَّة المهمَّة التي تُشارك في صياغة الرُّؤى المتصلة بمستقبل إسرائيل وعلاقاتها مع محيطها الإقليمي والدَّولي.
كان كيدار قد تحدَّث سابقاً عن هذه الأفكار لمحطَّة " فرانس 24" في عام 2014 أثناءَ برنامج حواري بينه وبين ناشطة يساريَّة إسرائيليَّة وناشطة سياسيَّة فلسطينيَّة. ثمَّ يُعيدُ طرح هذه الأفكار تفصيلاً في برنامَجٍ تلفزيونيٍّ يُديره " غولان برهوم " من معهد " كيدِمْ للأبحاث ".
يسألُ غولان برهوم – بلسانٍ عربِيٍّ فصيح - البروفيسور كيدار عن رؤيته للحل مع الفلسطينيين على النَّحو التَّالي:
" في عهدِ الحكم الأردني ليهودا والسَّامرة لم نكن نسمع بمصطلح الدَّولة الفلسطينيَّة. قمنا بالانسحاب من غزَّة وقدَّمنا مقترحات مُدهشة للفلسطينيين، وكان الجواب الفلسطيني انتفاضة مسلَّحة. هل ترى أنَّ حلَّ الدَّولتين هو الحل الوحيد ؟؟ ".
ويُجيبُ كيدار – بلسانٍ عربيٍّ فصيح هو الآخر - على النَّحو التَّالي:
" حل الدولتين فيه مشكلة عويصة؛ فالدولة الفلسطينية التي ستنشأ ستتحول إلى حماسْسِتَان جديدة.. لا يستطيع أحد أن يضمن لإسرائيل وللعالم أن دولة فلسطينية ستنشأ في الضفة الغربية لن تتحوَّل إلى حماسستان؛ فحماس ستسيطر على هذه الدَّولة إمَّا عبر صناديق الاقتراع كما حصل في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 أو عن طريق العنف المسلَّح كما حصل في قطاع غزَّة؛ لذا أرى أنَّ الإمارات الفلسطينية هي الحل .. الإمارة الفلسطينية الأولى قامت في غزة، هناك في غزَّة دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ فكل مقوِّمات الدولة موجودة في غزة؛ فهناك حدود وحكومة وتصنيع عسكري، وعلى إسرائيل أن تعترف بدولة غزة، وأنْ تقبل بها كدولة تحكم العلاقة بينها وبنين إسرائيل عوامل الردع المتبادل، وعلينا أن نستمر في هذا السياق.. يجب أنْ نُنْشىأَ إمارةً في محافظة الخليل لعشائر النتشة والجعبري وأبو سنينة والقواسمي، وإمارة في رام الله لعشائر البرغوثي والطَّويل، وإمارة أخرى في أريحا لعشيرة عريقات، وإمارة في نابلس للمصري وطوقان والشكعة، وكذلك الأمر في طولكرم لعائلة الكرمي، وكذلك الأمر في جنين وغيرها. وهذه الإمارات يجب أنْ يتم إنشاءَها على أساسٍ عشائريٍّ؛ لأنَّ العشائريَّةَ والنَّفَسَ العشائريّ يجريانِ في عروقِهِم مجرى الدَّم، وهذا أمر معروف – كما قال - لذا يتم إنشاءُ هذه الإمارات على أساس العشائر؛ لأن العشائر لها حضور ولها قوَّة ولها شرعية، وشيوخ العشائر يعرفون كيف يديرون أمورهم.
وهذه الإمارات يجب أنْ تقوم في المدن فقط، أمَّا المناطق الرِّيفيَّة والقرى فيجبُ أنْ تبقى تحت السِّيادة الإسرائيليَّة إلى أبَدِ الآبدين، ويمكن أن يتم عرض المواطنة الإسرائيليَّة على سكَّان المناطق القرويَّة في المستقبل.. السلطة الفلسطينيَّة يجب ألَّا تبقى قائمة؛ لأنَّ ليس لها وجود فعلي أو ذو قيمة، وينبغي ألَّا تقوم دولة فلسطينيَّة؛ لأنَّها ستكون دولة فاشلة كنسخة مكرَّرة للعديدِ من الدُّول العربيَّة الفاشلة؛ لذا ففكرة إنشاء إمارات فلسطينيَّة على أساسٍ عشائريٍّ في المدن الرَّئيسيَّة هو الحل الواقعي والممكن والوحيد !! ".
لفتني أثناءَ الاستماعِ إلى أقوالِ " كيدار " إحاطَتِه بأسماءِ كثيرٍ من العائلات الفلسطينيَّة، كما آسَفَني وأمضَّني استخدامُهُ لأسماءِ تلك العائلاتِ في ترويجه لأطروحَتِه. ولكن، من ذا الَّذي بمقدورِه مُحاجَجَة كيدار حول رسوخِ العشائريَّة في وعيِ وسلوك المجتمع الفلسطيني والعربي عموماً ؟؟.. ألَمْ نلجأ إلى استخدامِ العشائريَّةِ في كلِّ مناسبةٍ انتخابيَّة، سواءً على مستوى انتخابات المجالس التشريعيَّة أو البلديَّة ؟؟ أو حتَّى على مستوى ترسيخ وزيادة دعائيَّة وجماهيريَّة فصائل العمل السِّياسي ؟؟.. ألمْ تكن انتخابات البلديَّات عام 1972 – وهي أوَّل انتخابات بلديَّة تجري في أعقاب احتلال عام 67 – فرصَةً لتشكيلِ " الحمائل " أو العشائر الممتدَّة من خلالِ ضمِّ العائلات الصَّغيرة إلى الكبيرة في سجِلَّات السُّكّان لدى دوائر الحكم العسكري، وتشكيل الائتلافات العشائريَّة التي ما زالت قائمة حتَّى الآن ؟؟. ثمَّ ألا تُلاحِظونَ مُحاولاتِ النَّفخِ في ائتلافاتٍ عشائريَّة جديدة عَفَتْ عليها الأزمان وفواصل الجغرافيا الطبيعيَّة والسياسية العميقة ؟؟.
لمْ تكن أفكار البروفيسور كيدار يتيمة، أو مُنْبتَّة عن أصولِها وجذورها منذ الأيَّام الأولى للتَّحضير لحرب عام 1967 وما أَعقبَها من إجراءَاتٍ وسياساتٍ منهجيَّة حتِّى هذه اللَّحظة؛ فهي متَّصِلَةٌ بسياسات " بن يامين بن إليعيزر – الملقَّب بفؤاد نتيجَةَ نجاحه في اختراق المجتمع الفلسطيني من خلال شبكة العلاقات التي نسجها مع وجهاءِ العشائر " وهو أوَّل حاكم عسكري للضِفَّة الغربيَّة تحتَ إمرة وزير الدِّفاع موشيه ديَّان مباشرة آنذاك وكذلك بسياسات " شلومو غازيت " أوَّل منسِّق لأعمال الحكومة في المناطق تحتَ إمرة ديَّان أيضاً؛ حيث استندت تلك السِّياسة إلى اللَّعِبِ على تعدد الولاءات السياسيَّة والإداريَّة وتوزُّعِها بين بؤر ومراكز الولاءَات العشائريَّة والسياسيَّة في الضِّفة الغربيَّة وقطاع غزَّة وسيناء والجولان ما بين الحكم المصري والأردني والسُّوري السَّابق، والولاء لمنظمة التحرير أو للأحزاب الدِّينيَّة أو الائتلافات العشائريَّة، ومحاولة إيجاد بؤرة ومركز ولاء جديد للحكم العسكري الإسرائيلي العتيد من خلال تعزيز النَّفس الفئوي والعشائري . وبتقديري أنَّ أفكاراً كأفكار البوفيسور كيدار تأتي في ذاتِ سياق منهج ذلك التَّفكير الَّذي لَمَعَ في ذهنِ " إسحق مردخاي " قائد المنطقة الجنوبيَّة ذات مرَّة وتمخّضَ عن اقتراحِ خارطة " خطّة جلد النَّمر المُرَقَّط " الَّتي تُمثِّلُ الأماكن الَّتي يقترحها مردخاي كيدار كمناطق سيطرة للإمارات العشائريَّة الفلسطينيَّة غير المتَّحدة !!.
قبلَ أيامٍ أشَرِنا في مقالٍ إلى " يوتوبيا أو افتراضات " المفكِّر الإنجليزي " توماس مور " عن أفكارِ الجمهوريَّة الاشتراكيَّة التَّشاركيَّة المثاليَّة الفاضلة والَّتي اقترحها في بداية القرن السَّادس عشر، وبرغم مثاليَّة – ويوتوبيَّة أو طوباويَّة – تلك الأفكار إلَّا أنَّها كانت مصدرَ إلهامٍ لكثيرٍ من تطبيقات الدِّيمقراطيَّات اللِّيبراليَّة وحتَّى الاشتراكيَّة فيما بعد.. وهكذا فربَّما لن تُكون أفكاراً يوتوبيَّة – افتراضيَّة - يطرحها البروفيسور مردخاي كيدار طريفَةً بمقدارِ ما هي مُلْهِمة لصنَّاعِ السِّياسات والقرارات في إسرائيل والإقليم، في مناخِ تصريح نتنياهو قبل أيَّام من أنَّ مستوى التَّعاون والتَّفاهم مع الدُّول العربيَّة في هذه المرحلة لم يسبق له مثيل في يومٍ من الأيَّام !!.