قبل عام تقريبا بدأ الأمر! خطة لكتابة "أبي" بين السطور، تفاصيل تمزق وترمم في آن واحد، وأنا باللامنطق ضائعة اجمع حروف مقالي، فتهرب، وأخيراً أبت أول كلمة عن النطق...
مقال بتفاصيل معقدة ممزوجة بابتسامة رصعت بالتجاعيد، وفي قلبها أزقة اختبىء في ثناياها ثائر حربه الأولى وجه حبيبته الذي مر على رؤيته سنة أو سنتين والشوق يزداد.
مخيلة عاقر!، سوى من اسم تطاير دون جدوى أو حراك من قلمي! لكن حروفي تتراقص عنده يمينا وشمالا، فيحل بي الغضب فأتي بحرف الألف على السطر والميم بجانبه وثوان قد امسك بها خصلة من شعري لأجد كلاهما هم هاربا عني.
لحظات سخط على حروف اللغة كلها، ضحكات تعالت من الحروف شماتة بي، حالة هستريا تملكتني بشكل متقطع، وتتضمن الأتي: "صراع وثقل عقل وقلب"، هي أفكار تتصارع وبالنهاية يخاصم القلم صاحبه لا محال.
هذه المرة مختلفة، سأحدثكم دون مقدمات أو زخرفات حالها كحال من يزين ظاهر الأشياء ويخفي الكثير خلفها وكل ذلك بلا أدنى تفسير وتأويل
اليوم لن اتجرأ على تلوين الأمور سأدع الأجنحة تحلق بي عاليا وبكل رفرفة سأنتفض منها وبها لترمي بحفنة من الحكايات التي رسمها والدي.
لست الابنة المثالية لكني ابنته!
الخطة ذاتها، أبي بين السطور،عاما من المعاناة والقلم بخيل، لكن قبل شهر تحديدا نضب ولم احصد منه سوى على اسم لهذا المقال.
"طلق.. مرمية" اسم جردني من نفسي، يتم وشلل في الأطراف، لكن في خضم الشلل لن ترجح الكفة لي فالكفة راجحة لأبي التي هشمت يداه قسوة الجبال،وها أنا كبرت!
بخل وحصاد لاسم فقط، حالة مقتها دوما، ولعنتها حتى ظهرت الشيبات مهللة في رأسي، لكن الفرق هذه المرة أن وقعها قوي، فالخسارة لم تكن من نصيبي، إنها خسارة أبي.
"طلق"..
بداية ال"طلق" يقصد به غصن نبتة الميرمية، وهي كلمة فلاحية تستخدم بكثرة بالقرى الفلسطينية، وتجدها دارجة في أحاديثهم التي ترامت بين احضان الطبيعة، أو عند الجارة التي ما برحت حتى أعدت كوب الشاي مزينة أياه بطلق المرامية حيث لا مفر منه.
الآن استطيع الجزم أنه حين يلتمس بعضكم رشفة من هذا المقال سيظنه عبثا وتهويل وربما لن يفهم مما اقول شيئا، لكن لا مجال لأي اسم آخر ولا بأس عليكم وعلي منه، فالعنوان حقيقة وكل حرف فيه بمثابة قصة عايشتها في خطوة المشي الأولى إلى عملي الآن محررة في أحدى الصحف.
القصة أبطالها أبي وطلق الميرمية، أما يقال في السياق النفي والتصديق بما ورد هنا بعيد كل البعد عن اللامنطق وهذا صحيح، فقد كبرت وترعرعت من ذلك "الطلق"...
يحدث أن "طلق" المرامية يسكن في المناطق الجبلية القريبة والبعيدة، مناطق كم مقتها فأرجل أبي تشهد وتصرخ على قسوتها سنين طوال، أرجل اكلتها الصخور تشقق ودماء إن ثارت حلت به لعنة لن ترحل عنهإلا بماء ساخن لقح بالملح للتقعيم....
"اختفى أبي بين الجبال"
منذ الصغر كان المشهد المتكرر أمامي،ابتسامة أبي وهو ممسكا بيده كيس أبيض كبير وقنية ماء ومن ثم يذهب بعيدا يجول الجبال وفي نهاية النهار يعود جامعا ما امتلى به الكيس وصدح من المرمية.
رائحة بائسة امتلى انفي منها، لتبقى عالقة إنها رائحة الخلاء الخانقة، لكن المشهد ليس غريبا فعيناي اعتادت عليه لكن ما لم اعتد عليه وعلق في ثناياي هو عرق تصبب من وجنة أبي، وعبارة رددت بشكل متكرر من فمي "هذا ليس عرقاً هو مسك هو مسك ".
قصة الكبر والمرمية طويلة بعمر أختي، وبشعة فلم تكتب نهايتها بعد، لكن الأهمية ليست بالحديث عن الكبر أو الصغر، وإنما القوة التي لم توجد بتاتا، وأجزم اليوم أنني أملك شجاعة العالم بأجمعه لكتابة هذا المقال، فالحديث ها هنا عن عظيم ما صنع هو "أبي"!.
الآن لندخل في تفاصيل الماضي والحاضر، لن استحضر ارواح أحد رحل عنا، بل روح صغيرة هي أنا، سنسترجع ونمزج معا ونمتزج بين كل الأمور في آن واحد علنا نكتب نهاية ستعلق بالورق ليس إلا.... وأفعل ذلك للخلاص ليس إلا..
"ذاكرتي الصغيرة"
ما تمسكت به ذكراتي في الصغر، سأرميه هنا، لأنسى أو اتناسى، ولأحقق الخلاص لروحي في آن واحد،
أذكر أن أبي لم يترك عملا إلا ودق بابه، فعمل في الداخل المحتل متنقلا بين أعمال البناء إلى العمل في مسمكة وأخيرا لمصنع هواتف إسرائيلي ولا خيار آخر لديه لابد أن يعمل، ففي عاتقه 9 أطفال ينقسمون بين 6 في الجبهة الأولى "البنات" والجبهة الأخرى 3 "أولاد".
لم يجد "أبي" أي خيار يطرح أمامه لينهض بنا من وحل الجبال، حياة مريرة قضى فيها عمر قسم حياته نصفين، نصف قضاه في الجبال باحثا عن "طلق" مرمية اختبىء بين الاشواك، ونصف آخر بين أزقة المخيمات وبصوت منادي "مرمية.. مرمية.. الربطة ب 5"...
وفي النهاية يعود أبي منهكا بعد أن نالت منه الشمس، يعود وقد حصد على 200 شيقل وربما اقل من بيعه للمرامية، ولا يهم المبلغ فهو يعود محملا بالخضرة والفواكه التي ترضى بطوننا، وما أن يمر اسبوع أو ثلاثة أيام ليعود للعرق والبحث في الجبال عن طلق مرامية آخر وتتالت السنين على هذا المنوال..
لا أنكر، أمقت رزقتنا هذه، لكنها حقل النجاة الأخير لنا، ولا يقع اللوم على أبي فلم يحصل على تعليمه بأن اكتفت منه الدراسة عند الصف السادس، ترك التعليم باحثا عن عمل، مع ذلك فقد حدثني الكثيرون عن كونه كان محبا للغة الانجليزية ولأبيات الشعر التي مازال يرردها مراراً متى كانت البشاشة بادية على وجهه.
"الطفلة المتطلبة"
كنت دوما الطفلة المتطلبة، فعالم الأطفال مختلف بمتطلب لا تبصر، ففي مواجهة كل شيء هنالك عائق يخرج بين الفينة والأخرى مذكرا ايانا، والعائق هنا أن ليس كل شيء يرى تحصل عليه، فالظروف صعبة وعليك التأقلم مهما كان.
وتذكر رحلة المدرسة يتيمة منك إلا أن توفر القليل والفرحة حينها ستغمرك.
في خضم كل هذا، أجدني العن نفسي في الكثير من الأحيان، لكوني كنت متطلبة، والأمور بتفكيري المحدود بعيدة عن المنطق، أما رؤية من تصبب عرقا وشوهت يداه بالاشواك لأجل "طلق مرمية" فلم يستوعبها ذاك العقل الصغير.
أما لعناتي المتكررة فكانت من نصيب " طلق" المرمية" الذي نمى في جحر الشوك التي ابتلعت يداي أبي..
لا أنكر كنت دوما طفلة بلا منطق، وهذا مبرر فقد توجعت لعدم حصولي على ذاك وذلك، ومن ضمنها لعبة بشعر اصفر لازالت تسكن "دكان" حارتنا، وبرغم كل "التحويشات" لم انجح بالحصول عليها....
لعبة لساعات
اذكر جيدا طريقتنا المتبكرة أنا وأخواتي في تقسيم الالعاب التي كان أبي يأتينا بها، بأن نتقاسمها ساعات فيما بينا لتكون اللعبة لشخص منا ولو لساعات، وحقيقة هذه الطرق، ابتدعناها بذكاء وتقدير لربما، فأبي هذا ما قدر له واستطاع فعله لنا..
فعل هذا المقال بالاسم والحرف هو تجريد من الشيء واللاشيء في، لكن أأمن بالقول:"أكتب ومزق لتنسى أو لتزداد قوة"، وأجزم أن القلم انتفض تكفيرا عن شعوري المتأخر بعظمته "أبي"، أو إنكار مني أو تجاهلا أو لوم لكون الدنيا والهم والبحث عن الرزق أنهكه وأبعده عنا بين الجبال.
ولو قدر لي أن امسك ريشة لارسم، سأضع خطوط وجه أبي وجبل ابتلعه مبعدا اياها عني، أكرر قولي فمن ذاك "الطلق" كبرت سنة بعد أخرى لأصبح اليوم صحفية حين يلفظ أبي اسمها لا تسعه الدنيا.
ذات الشوق يتسع بكل خطوة تخطيها إليه، وأخيرا لم يعد يسعنا العالم، لكن الفرح لم يكتمل هنالك صوت مختنق ينادي: يكفي علينا أن نرحل.