منذ سنين وسؤال الكتابة في الزمن العربي الصعب يفرض نفسه. ما الذي يمكن للأديب أن يقدمه حين تعانق السماء الأرض بالقذائف والصواريخ دون توقف؟ هل يصبح الحديث عن الأدب والأدباء مجرد ثرثرة؟ محمود درويش في "ذاكرة للنسيان" يستحضر هذا السؤال الهام في فترة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وهو السؤال ذاته الذي ما يزال يفرض نفسه علينا في زمن عربي يزداد تعقيدا، فما أسهل أن نرى أننا نعيش زمنا تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، وهو ما يجعل الإجابة مهما اجتهدنا فيها تحمل طابعا مركبا إلى حد كبير.
رغم هذا أستطيع القول إن درويش في كتابه الآنف الذكر ينطلق من فكرة هامة جدا، تتمثل في أن انكسارا كبيرا عايشه في بيروت فترة الحصار والخروج الفلسطيني المعروف لم يثنه عن التمسك بالأحلام وعدم التوبة عنها، أو السماح لها بالموت مهما تكرر انكسارها، أما العزوف عن الكتابة المنخرطة بعملية التغيير، فيعني صنفا من كتابات تسقط فكرة التمسك بالأحلام، ومتى سقطت الفكرة فإن مستقبلا يولد من حاضر نعيشه الآن سيسقط بالضرورة.
متى يحقق الأدب عرسه الكبير؟ يرد درويش على هذا السؤال بالتشديد على محاربة النصوص المكتوبة بلغة بعيدة كل البعد عن الناس، فالعملية الإبداعية الناجحة هي تلك التي لا ينقطع فيها التفاعل بين النص وبين أولئك الذين يمكن أن يتحول النص بين أيديهم قوة، وهو ما يمكن تحقيقه حين يصبح الصوت الخاص هو الصوت العام، وعليه فإن نقدا يروج لاغتراب الأدب بحجة الحداثة يحرك إصبع الاتهام باتجاه فئة دأبت على التبشير بالهزيمة النهائية لكل شيء.
في هذا المناخ يبدو من المناسب العمل على تفعيل ثورة مضادة تعيد النظر في أولئك الذين يحملون في دواخلهم عكس ما يظهرون من رفض لحمولات إيديولوجية يحتكرونها خفية.
يتساءل درويش: ما الذي يمكن لنصوص تتوالد في إطار فوضى تجريبية تطرح نفسها باسم الحداثة أن تقدمه لنا في الظروف الصعبة؟ وهو يعني نصوصا ما إن نغامر في البحث عما تقوله، فإننا بالكاد نجد شيئا. ألا تساهم نصوص كهذه مغرقة في غموضها بانهيار الأدب شعرا كان أم نثرا؟ أما الانهيار الأفدح فمع كتابة تتخطى الحدود باسم الحداثة الشكلية لتصبح " سلامة اللغة تخلفا، واستقامة الوزن رجعية، والوضوح عورة، بل وصار القول ووصول القول في حد ذاته همجية"، بما يفضي إلى انتكاس مريع في المعاني العربية الكبيرة تحتضنه مؤسسات ثقافية همها تشجيع كل مطالب بالنسيان، ولو كان النسيان وطنا قد انتهك.
ليس المطلوب من الكاتب شاعرا كان أو روائيا أن يبادر مباشرة للكتابة في زمن الغارات البائس، فردة فعل الكتّاب ليست واحدة دائما، ولدرويش ما يقوله في هذا الشأن: " فمن يستطيع الكتابة الآن فليكتب، ومن يستطيع الكتابة بعد الآن فليكتب. غنوا إذا شئتم أو اصمتوا إذا شئتم".
قد يبدو في هذا القول تناقض مع ما سبق، ولكن سؤال الكتابة المركب، تقابله بالضرورة إجابة مركبة. بعضهم كان يطالب درويش في منتصف الغارات القوية أن يكتب قصيدة تقلب موازين القوى، وفي عينيهم إن لم يكن على ألسنتهم سؤال:" إذا لم تولد القصيدة الآن فمتى تولد؟ وإذا ولدت فيما بعد، فما هي قيمتها الآن؟". أما الجواب فيكون بالقول: إن القصيدة تولد الآن في مكان ما لحظة القتل والغارات، ولكنها تحتاج فسحة من الوقت حتى تصل إلى الحنجرة والورق.
هذا لا ينفي تفكيرا بأن الحديث في زمن الغارات عن دور الأديب قد يراه الجرحى والعطاشى الباحثين عن الماء والخبز والملجأ مجرد ثرثرة، فتنكة الماء في زمن انقطع فيه الماء تساوي وادي عبقر كله، ولو خُيّر المنكوبون بين الفاعليتين الإنسانية أو الجمالية الإبداعية لاختاروا الأولى.
من وحي ما كتبه درويش فلا قيمة حقيقية لكتابة إبداعية أو نقدية تنعزل عن إطارها الثقافي والاجتماعي والحضاري والسياسي، فالنصوص الأدبية ليست مجرد مادة قابلة للمعرفة العلمية، وهي بالضرورة تتجاوز كونها كتلة لغوية تحذف الإنسان لصالح شعرية منعزلة عن الحياة الصاخبة التي نعيشها.
ولو أجزنا هذا الانعزال فإننا نقوم بالتضييق من معيار القيمة في علاقتنا مع ما نقرأ، والأدهى من ذلك أن الكتابة تتحول آنئذ كما يقول محمد باروت إلى طاولة تقوح منها رائحة المخبر بدلا من الروائح الإنسانية العميقة، ويغدو الناقد آنئذ مجرد مشرح مدرسي يكتفي باستخدام معطيات الحاسوب والجداول والمخططات. طبعا لا يفهم من ذلك أية دعوة لإهمال بنية النص من الداخل، وإلا خاب النص بقيمته الفنية التي تعد مسربا للقيمة الفكرية التأثيرية.