السـّخرية و الحـكائيّة:
{المبدعُ الحقيقيّ هو الذي يلمّ بقواعد الفنّ من أجل أن يتجاوزهَا لا من أجل أن يتقيّد بهَا تقيّدا صارمًا[1] } ، والسّخرية الحكائيّة {تتبدّى من خلال استحواذ السّارد على كلام الشخصيّة ، وتكراره على طول النّصّ مشكّلاً بذلك ما يُمكنُ تسميتهُ إيقاعًا ساخرًا [2]} ، كقصّة {المهاجر}{من نفس المجموعة لأمين دراوشة}:{عالق لا يدري أينَ تسيرُ به السّنون ، سبعُ سنوات عجاف،
ولا يظن أبدًا أنّ يتبعهنّ سبعٌ زاهر..قف وفكّر..أيّهَا الحثالة النّائمةُ ، أهجر ، سافر، فارق ...وأحسّ بأنّ بحار الدّنيَا تعجز عن إزالة ما علقَ به من نتانة } ، أينَ تواتر الصّيغ السّردية ، يوسّعُ دائرة السّخرية المشحونة بالدّلالات.
تكشف وضع الإنسان المضطهد والمظلوم والحقير في شعب أغتصبت أرضه ، يناضل بكرامة وعزّة لاسترداد حقوقه وليس إلاّ النضال ، الحركة ، الفعل ، ولعلّ هذا يتوضّح في المقطع {قف وفكّر ..أهجر ..سافر ..فارق ..} ، والسّخرية الأدبية عادة لا تعرفُ مخرجًا ولا حلاً للصّراع والتّوتّر في باطن شخصية أو شخصيات ، وبذلك تنبني في القصّة القصيرة جدًا على المفارقات وشساعة المسافة بين الرّغائب والواقع المعيش، أأنتج ذلك مأساة أو فرحة ، أبقيَ ثابتًا أو سعى متحوّلاً .
التـّكثيفُ :
نيمّم شطرَ التّكثيف وهيَ تقنية من تقنيات التّجويد الكتابة القصصيّة ، في عمق الفكرة وثراء اللّغة ، فالكلماتُ تنتمي إلى جمل قصيرة ، ولكنّهَا غنيّة بالمعاني وثريّة بالدّلالات تنبض بالحياة ، فالقارئ حينما يلتقيهَا يعود إلى حياته في مشهد مختلف، ويصطدم بالحقائق دفعة واحدة ، كقصّة {هيكليات}
{من نفس مجموعة دراوشة} :{سنوات طويلة قضّاهَا في الغربة يتلقّى العلم، عاد أخيرًا إلى أرض الوطن، بعد أن تجرّع الغربة، التي لم يستسغهَا أصدقاؤه ، حاولوا مساعدته بأن قدّموهُ لوزير التّربية والبحث العلمي ، الذي قابله بوجه بشوش ..ابتسم، شعر بأنّ الفرج قادم لا محالة، طارَ بأحلامه إلى أقصَى مداهَا، باغتهُ الوزير بالقول : يا للحظّ القبيح، لو أنّكَ جئتني قبلَ أيام، لأمكنني فعلُ شيء ...}،
تصف الجُمل بطل القصّة الذي ذاقَ مرّ الغربة ، غربة الفلسطينيّ بعيدًا عن وطنه ، وغربته في وطنه الذي يتّخذ أولي الأمر فيه، من التّأجيل والمراوغة ملاذًا، هروبًا من افتضاح الضّعف وهشاشة السّلطة، ويواجه الكاتبُ القارئ بواقع الإنسان الفلسطيني الصّامد في قصّة {أشواك}
{بنفس المجموعة صفحة 8} أمامَ ويلات التّضيّيق الصّهيوني على كلّ مشروع وأمنية وحلم ،وعلى التّجوال والسّير والتّنقّل والتّنفس :{ تساءل أحد الرّكاب ، وهل نحن بشرًا ؟ اجتزنَا الطّريق كالمشدوهينَ نتلفت في كلّ اتّجاه ن خوفًا من جنود مشاة مختبئينَ ، وأصابعهم على الزّناد، وطفقت أفكّرُ ما ينتظرُ الحواجز في المرّة القادمة}
الاسترسال :
والاسترسال في الجمل ، يورّط القارئ في أمانة اكتشاف الخفيّ ، فلا يتوقّف عن القراءة ، قراءة مأساة المثقّف الذي يمتلك كوم شهائدٍ وهو عاجز عن العمل ، هاجر لطلب العلم ، وتيسّر له ذلك بعقيدة الإصرار والصّبر وصدق المقصد ، ولكنه لا يوفّر رغيف خبز بهذه المعارف ، حقًا إنّهَا مفارقة عجيبة تفضح بشاعة الحقيقة وتكذّب الأفكار والنّظريات ، إنّه الفلسطينيّ الذي اغتـُصبت أرضه ، واغتـُصبَ حلمهُ ، وحُرمَ من الاستقرار والبناء ، وتستمرّ الحياة نقطة استفهام تتغذّى فيهَا الرّوح بألوان العذاب ولا ينفع الصّبرُ ، { الشجرة تعجز عن حمل ثمارهَا ..صوت بغيض وقذر يعوي في الخارج .. يمنعُ التّجوال} ،
إنّها الحيرة التي تختفي في صورة البحر مكتوف اليدينٍ في قصّة {من نفس المجموعة النّحلةصفحة13} :{يرى البحر مكتوفَ اليدين ، يرفعُ سبابته شاتمًا الفراغَ ، مخاطبًا اللاّشيءَ..} ويواصلُ الكاتبُ الوصفَ :{ولمَّا أيقظته الشجونُ ، كانت وجوه الذئاب تصفعُ بالقبح وجه الخليقة ، والبحرُ مقيّد اليدين ، والرّوحُ دونَ عينينِ أو شفتينٍ}
والكاتب بقصّته القصيرة جدًا صوّر بشاعة المستعمر الصّهيوني :{اجتاح الجنودُ البلدة الواعدة ، وحوّلوا ليلهَا نهارًا ، تلوّن بلون اللّيل ، أخذتهم نشوة القتال انّسلَ من البُستان بعدَ أن تلوّنَ بلونٍ الشجر ،العيونُ والطّلقاتُ ما فتئت تبحثُ عنهُ ، أضاءَ القمرُ سبيلهُ ..بعدَ شهور اصطادتهُ الأفعَى ، فعالج السمّ بترياق الخلود } .
العــجائـبيّ:
أمّا العجائبيّ فهو في السّرد لينعتقَ به القاصّ من ضجر الواقع واضطراباته ويدخلَ جهات ومتون مختلفة ، قد تكون ممنوعة بحكم العادة والعُرف أو القوانين والنّواميس أو مهملة أو مجهولة ، فهو توظيف للخروج بالقارئ من قتامة الواقع الرّديء إلى واقع مغاير ومختلف يمكن أن يكونَ واقعيًا أو خياليًا ، والخياليّ يقترنُ بالعجائبيّ لينتفي الألم ، وتفتحَ كوّة للحلم ، إنّهُ الهروب الفنّي للإبداع ، كقصّة {سندريل} للكاتبة الفلسطينيّة نهيل مهنّا من مجموعة {حياة في متر مربّع} :{جلسَ يطهو الطّعامَ ، يكنسُ الأرضَ ، يشعلُ الحطبَ ، بينمَا ذهبَ الأبُ وابناهُ القبيحانٍ إلى حفل يحظَى بإعجاب الأميرة ، جاءهُ الجنيّ الطّيبّبُ ومعهُ بزّة جديدة }.
والعجائبي ينبني على روابط {الأنَا} و{الهو} ، المسكوتُ عنهُ في علاقة الجنسينٍ ، كقصّة {المشاغب} لأمين دراوشة من المجموعة نفسهَا ، {يدنو الموتُ منّي ، أشعرُ باقترابه ، يُحاولُ أن يسلبني كلّ ما أملكُ ، يبعثُ رجالهُ لتعقّبي ،وإلاّ ما معنَى القلقُ الذي يلاحقني كنفسي ؟ يا عذابَ نفسي اتركني ، أتوسّلُ إليكَ ،ارحلْ عنّي ، يُجيبني صداه في الفضاء : لولايْ لما عرفتَ معنَى السّعادة بعدَ العذاب .. ومن قال إنّ الحياة صراع لا ينتهي ؟ أنا أقول ذلكَ ، فهذه حكمة الخلقَ ...}
البعد الفلسفيّ في القصّة القصيرة جدًا :
في هذه القصّة القصيرة جدًا {المشاغب} ـ يتحوّل العجائبيّ إلى فلسفيّ ، فيقــدُّ الإنسانُ {بالعجب/ التّعجّب} سّؤالاً يحققّ به وجودهُ ،أليسَ {أنَا أفكّر أنَا موجود ؟} ، وهنَا يلتحم الفنّي الإبداعيّ بالفلسفيّ ، ونرى القصّة القصيرة جدًا بروعة البناء ، تجوبُ باطن شخوصهَا ، وتجوب الزّمان والمكان بحثًا عن المستجدّ ، هاشة بالكناية باشّة بالاستعارة ، وبنظم السّرد والوصف ، لتتشكّل صورة فلسفيّة للواقع وللأشياء ، يتجاور فيهَا الواقعيّ والحقيقيّ ، والماديّ الصِرف والإنسانيّ الخالد ، بين الماضي والحاضر والمنشود ،فتنفتح القصّة على تأمّل أو حلم وتنتهي بسؤال البدء الدّائم ، فلا تنتهي
وبذلك يتحوّل الكاتب إلى فيلسوف مثلما يتحوّل الشاعرُ إلى نبيّ مجهول ، وآية فلسفة الكاتب السؤال في مونولوج داخليّ أو خارجيّ تجهر به الذات المتحرّر، ولكن هل تأثرت القصّة القصيرة جدًا بالرّواية الجديدة ؟
نجحت الكتابة التّجريبيّة في الثورة على القوالب الكلاسيكيّة التي حدّت من حرية الكاتب ، وخلخلت البناء السّردي بل وانزاحت عنه ، لخلق بعدًا جماليًا فنّيًا جديدًا ، وكذلك فعلت القصّة القصيرة جدًا متأثرة بالرّواية ، إذ جرّبت تقنيات سردية نجدهَا في الرّواية الجديدة ، التي تعتبرُ السّردَ عملاً منفتحًا على أجناسٍ أدبيّة مختلفة . ولكن هل وظّفت القصّة القصيرة جدًا التّثغيرَ ؟
التـثـغير:
يبرز التّثغيرُ في توظيف الفراغ ، إمّا باستعمال أداة الوصل وعدم ذكر الاسم الموصول {ال...في...} وكذلك في توظيف البياض ، كأن يذكر القاصّ عنوانًا معرفًا ، بدون نصّ قصصي يُثبتُ البناء ، ويبرز في بناء الجمل وترتيبهَا واستعمال البياض الشاسع بينهَا ، ممّا يُشركُ القارئ في تخيّل بعض أحداث القصّة ،والتّواصل المتين مع أحداثهَا وشخوصهَا
ومساءلة ما سكت عنهُ الكاتبُ ، وهذه تقنية ذكيّة الهدف منهَا ، بناء مسافة تقارب بين القارئ وبين سرعة أحداث النّص ، فيمتدّ عمر القصّة أكثر وتستمرّ ديمومة الخيال والذاكرة ، في ديمومة الزّمن والحياة ، أنشودة للحياة ، ولكن أينَ حظّ الاستعارة ؟
الاستعارة :
تحضر الاستعارة في القصّة القصيرة جدًا باستخدام ألفاظ في غير ما وضعت لهُ ، لعلاقة المشابهة بين المعنَى المنقول عنهُ، والمعنَى المُستعملٍ فيه ،مع قرينة صارفة عن استعمال المعنَى الأصلي . وبهذا المعنَى توظّف الاستعارة في تعدّد الصّور الإيحائيّة ، بجمالية الوصف والسّرد ، ورقّة التّعابير ، ودلالة المعاني وشعريتهَا ـ تكشفُ مفارقات الحياة وخفاياها
وتتحدّث عن عالم الإنسان في كلّ محطّات حياته ومواقفه ومشاغله وأحزانه وأحلامه وأفراحه ومآسيه .علاقة الإنسان بنفسه وبالوجود وبالآخرين ، وبذلك فالاستعارة{جنس سريّ مغلق ذو لغة لولبيّة تجعل من {القصة} الأخ الشقيق للشعر}[3] ، ونجد ذلك في قصّة{ الغيث}
{لأمين دراوشة من نفس المجموعة }:{يعوي كالذّئب الجريح ، أولاد الوسخة لم يتركوا لنَا سوى اليباب} ، وفي قصّة {المهاجر} :{عجزتُ عن استيعاب سبب فراره من الجنّة إلى الوحل} ، وفي قصّة {الشجرة الموعودة} :{ ملائكة بيض ، حملوني وطاروا بعيدًا ، تخطّينَا الأعراف بسهولة ويُسر ، وحطّينَا على شجرة باسقة...هاجمهَا الشيطان حاول تحطيمهَا تكسيرهَا ، سحقهَا ، قطعَ أصابع قدميهَا دونَ تخدير}.
وهنا تكمنُ الحرفيّة السّاحرة التي تجعلُ أدبية النّص القصصي خارجة من المسكوت عنهُ لا ممّا قيل .وبذلك تستند القصّة القصيرة جدًا على الاستعارة لأنّها تلوذ بالشعر في بنيته ،وصوره و أساليبه ، تنشد خلق واقع مفارق ومختلف وجديد .
خاتمة :
الكتابة القصصيّة متجدّدة لأنّها كتابة عن الإنسان وللإنسان ، والكاتب هو البحّار الذي يخوض غمار موج الكتابة كلّ يوم، مثلمَا يخوض غمار الحياة ، والقصّة القصيرة جدًا تنتظر مساهمات النّقاد بقراءاتهم ومقارباتهم ، وخاصّة التّجربة الفلسطينيّة الثريّة ، وقراءة نقدية كهذه ليست إلاّ تحيّة تقدير للكتّاب والكاتبات في فلسطين ، جزاء صبرهم وصمودهم ، وسعيهم إلى التّجديد في تجاربهم الإبداعية الأدبيّة .