على الدَّوام، كانت أزمات الحاضر –وستظل– أحجار زاوية المستقبل، كما كتَبَ ذات مرَّة النَّاقد الأدبي المصري غالي شكري في كتابه "ثورة الفكر في أدبنا الحديث" الصادر عام 1965 – حيث جاء كتابه في مناخِ جملةٍ من التَّحولات والارتدادات التي فرضتها ثورة يونيو عام 1952 في مصر والعالم العربي، وفي بيئةِ ما كانت تفرضه القضية الفلسطينيَّة وتطوراتها المتلاحقة من تحدِّياتٍ وتقرير مصائر وأوضاع واقعيَّة ووجدانيَّة وثقافيَّة للشعبِ الفلسطيني ولسائر شعوب المنطقة العربيَّة.
ثمَّة علاقة جدلية إذَنْ بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتبدو تلك العلاقة الجدليَّة واضحِةً أكثر عند اقترانِ افتراضات وتوقُّعات المستقبل قياسًا بمعطيات وعناصر الرَّاهن المُعاش والقابلة للقياسِ بلغةٍ رياضيَّةٍ –على سبيل المثال- أو بالمقارنةِ مع غيرها من النَّماذج الماثلة.
وفي هذا السِّياقِ من القياس والمقارنة، يمكنُ ملاحظة وتقدير علاقة وموقع ووظيفة ودور فعل الكتابة والكاتب والأدب من حيث التأثير في سيرورة تلك الجدليَّة، وحيث تغدو الكتابة والنَّاتج الأدبي، إذْ ذاك، فعلاً تاريخيًّا له حضورٌ ووزنٌ وأثر في سياقِ التَّحَوُّلات في عوالِمَ متحوِّلَةٍ من حولنا على الدَّوام مع مرور الوقت واختلاف الأزمان، وما يجري من تبدُّلٍ للقوى الحضاريَّة الوازنة المؤثِّرة ثقافيًّا ومنهجيًّا وفعليًّا في رسمِ معالم الحاضر ومِن ثَمَّ المستقبل على مستوى العوالم. وحيث تصبح الرِّواية –على سبيل المثال- وكَمُنْتَجٍ أدبيٍّ تفاعليٍّ، وبما تحويهِ من سَرْدٍ ومشاهدَ وحواراتٍ وبداياتٍ وخواتيم، تلخيصٌ لروايَةٍ تاريخيَّةٍ بمفرداتِ الواقع الرَّاهن وعناصرهِ، وكنَمَطٍ أدَبِيٍّ يُواكِبُ ويُسْهِمُ في فِعْلِ ومسيرَةِ التَّطَوُّر التَّاريخي والاجتماعي ضمن الشُّروط التي تفرضها أزمات الحاضر الاجتماعيَّة والسياسية والأخلاقيَّة لدى أيِّ أمَّةٍ من الأمم.
لكنَّ الرَّواية، وكذلك كثيرًا من النَّاتج الأدبي والكتابي –في مختلف مستويات الكتابة وأنماطها ابتداءً من المقال مرورًا بالقصَّة القصيرة، وحتَّى المؤلَّفات والكتب بما فيها الرِّواية السِّياسيَّة- يَقَعانِ أحيانًا فيما يمكننا وصفه "بالبديل الرُّومانسي" بمعنى النَّظرة العاطفيَّة إلى الوراء كتأكيدٍ عاطفيٍّ وانفعاليٍّ على أحقيَّةِ وصوابيَّةِ منطقِ الاستدلال بالماضي كوسيلَةٍ تعويضيَّةٍ عن الشُّعورِ بالضَّعفِ والوهَنْ أمام تحدِّيات الحاضر، وكبديلٍ عن مواجهَةِ أزمات الحاضر عبر اجتراحِ وسائِلَ أكثر مواءَمة وملاءَمة، وكتعبيرٍ عن حالة العجز عن توليدِ الأفكار الجديدة الفعَّالةِ لجهةِ ابتكارِ نظريَّاتٍ وأدواتٍ وآليَّاتٍ رياديَّة تضَّطَلِعُ بتقديم الإجابات الصَّحيحة عن الأسئلةِ الَّتي تُلِحُّ بها أزماتُ الحاضر.
وأحيانًا كثيرة ما يقع فعل الأدب والكتابة في دائرَةِ لولَبيَّةِ التكرار والتَّقليد والنَّمطيَّة، واقتصارِ دورِهِما ووظيفتِهما إمَّا ضمنَ سياقاتِ الوصف التَّجريدي للواقع، أو التَّبرير كتعبيرٍ يواكب الهروب العاطفي الانفعالي إلى الذَّات المتقوْقِعة، أو النَّقد السَّلبي الانفعالي –حيثُ تكونُ الذَّات الماديَّة أو المعنويَّة منطلقه ومحوره ومحرِّكِه- وذلك كتعبيرٍ عن حالة الحَنَقِ والامتعاض من ممارسات فعل الإقصاء السّياسي أو الاجتماعي وما يُحاولان فرضه من عزْلَةٍ على مَن هم خارج سياقات مصالح ورغبات وعطايا وامتيازات السلطة ومصادر تأثيرها الفعلي والمعياري ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وطبقيًّا أو فئويًّا.
وبالإجمال فإنَّ دوافع ومفردات الأدب والكتابة والرِّواية بما في ذلك ما تنتجه أحيانًا من مشاهد دراميَّة أو مسرحيَّة "تعبِّرُ في الغالب عن حالَةٍ من الإحساسِ بوجودِ فضاءٍ مُتنازَعٍ عليه؛ فالكاتب يملأُ الصَّفحة أو خشبة المسرح بِلُغَةٍ تُكافِحُ في سبيل الحفاظ على البقاء"؛ لذا فإنَّ الكتابة لمْ تكن ولا يمكن أنْ تكون حرَّةً بلا قيودٍ تفرضها ضرورات الحياة وأزماتها، إنْ على المستوى الشَّخصي أو العام، أو أنْ تكون منفصلة عن الواقع المُعاش تمامًا؛ لذا فهي تضع نفسها –أو هكذا ينبغي– في خدمة الحياة؛ وهذا المفهوم الأخير يمثل زاوية رؤية، أو طريقة من طرائق مطابقة دور الكاتب والنَّاتج الكتابي أو الأدبي مع إشكاليَّات المُعاصَرَة، وتحديدًا العربيَّة منها. من هنا تكمنُ أهميَّة تناول الكتابة كفعلٍ ودورٍ وكمفهوم ضمن دائرة الحريَّة في نطاقِ المسؤوليَّة الأخلاقيَّة والإنسانيَّة تجاه الحياة المعاصرة بعيدًا عن استحضار أشباح الماضي كما لو كانت شخصيَّاتٍ من لحمٍ ودم تعيشُ بيننا !!.
هنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّنا عندما نتحدَّث عن الوسائل والأدوات والآليَّات الفعَّالة والرِّياديَّة لا نقصِدُ بالضرورة وحصرًا ما قد أتاحته التكنولوجيا، والحداثيَّة التقنيَّة في مجلات الإعلام والدِّعاية ووسائل وأدوات الاتِّصال والتواصل، بمعزِلٍ عن قوَّة الأفكار الَّتي تُطرَح، وسلامة الرُّؤى التي يتم تقديمها وصياغتها نظريًّا، وصحَّة منهج التحليل والاستدلال وتقديم البدائل الواقعيَّة الفعَّالة، وتوليد الأفكار الرِّياديَّة، فما أهميَّة أنْ نمتلِكَ –ونُحْسِنُ فنيًّا وتقنيًّا استخدام- كل هذا الكم الهائل من الوسائل والأدوات الحداثيَّة في مجالات التَّواصل والإعلام والنَّشر الجماهيري؛ إذا كانت أفكارُنا مُقَوْلَبَة وتنميطيَّة، وإذا كانت تعبيراتُنا عن أزماتِنا تستخدمُ لغةً انفاعليَّة وعاطفيَّة وتدورُ في ذات فلك البدائل الرُّومانسيَّة في استعارَةِ الماضي وتجاربه بمفردات الحاضر المُنَمَّقة أو الجوفاء ؟!.
وبالإشارَةِ إلى مفهوم الماضي وتجاربه وخبراته ومؤثِّراته الوجدانيَّة والانفعاليَّة والثَّقافيَّة والمنهجيَّة المستمرَّة –وفي هذا السِّياق الَّذي نتحدَّث فيه- فإنَّه لا يعني فقط ذلك الزَّمن الغابر القديم، كما قد يتبادر بديهيًّا إلى الأذهان، بل قد يكون هذا الماضي يتَّصل ببضعةِ عقودٍ من الزَّمن فحسب حيثُ يبدو في هذه الحالَة، وكأنَّهُ يتجلَّى بمجموعَةٍ من الظِّلالِ والمؤثِّرات الصَّوتيَّة لشخصيَّاتِ روايَةٍ أوصلها كاتبها إلى حدِّ الكهولة وفقدان الأدوار، لكنَّه لمْ يستطع بَعْدُ أنْ يَصُوغَ نهاية تلك الشَّخصيات دراميًّا رغبةً منه في استمرارِ وجودِها وكتعبيرٍ عن -عدم رغبته في- أو قدرته على استبدالِها، وربَّما كتعبيرٍ عن عدم قدرته على، أو رغبتِه في، كتابة الفصل الختامي من الرِّواية بما يُمليه سياق مقدِّماتِها التي صاغها هو بنفسه؛ وهو بذلك يُعبِّرُ عن جملةٍ من الرَّغبات الشَّخصيَّة الكامنة المستترة خلف التلاعب بمفردات اللغة وتعبيراتها المُنمَّقة؛ وهذا هو أحد تجلِّيات البدائل الرُّومانسيَّة العاطفيَّة في التَّعبير عن أزمات الذَّات؛ وإذْ ذاك فإنَّ روايةً من هذا النَّوع لا تصلُح كمعيارٍ ولا كمصدر استدلالٍ أدبيٍّ أو تاريخيّ.
بالإجمال، إنَّ قوَّةَ وانتشار وسائل الدِّعاية والنَّشر والتَّواصل والاتصال والإعلام، وهذا الكم المهول من الكتابة والإنتاج الأدبي في عالمنا العربي لمْ يكن لها تأثير بضع مقالات كتبها المفكر والفيلسوف الإنجليزي -جون لوك، صاحبُ نظريَّة العقد الاجتماعي والفصل بين السلطات- في نهاية القرن السَّادس عشر، حيث أتاحت وسائل الطِّباعة البدائيَّة آنذاك نشرها ببضع مئاتٍ من النُّسَخ. وكذلك كان الأمر مع أفكار "مارتن لوثر" رائد حركة الإصلاح الدِّيني في مطلع عصر النَّهضة.
والأمثلة في هذا السِّياق كثيرة جدًّا؛ وهي تؤكِّدُ على حقيقةِ أنَّ قدرة الأفكار على فعلِ التَّغيير تتصلُ بواقعيَّتِها بفاعليَّتها وبقدرتها على الإقناع اتِّصالاً بما تُعالجه من أزمات وتطرحه من رؤىً غير نمطيَّة أو تقريريَّة أو تبريريَّة.