بوادر المصالحة السياسية كثيرة هذه الأيام، ومنسوب التفاؤل بإنهاء الانقسام وإعادة اللحمة السياسية للأرض الفلسطينية في تزايد مطرد بعد سلسلة من البيانات السياسية والإجراءات العملية من قبل حركة حماس والقيادة الفلسطينية. بعد عشر سنوات عجاف من العار والألم والعنف والانقسام، يبدو أن الظروف باتت مواتية لسيناريو تعايش سياسي يضمن وحدانية التمثيل السياسي ووجود حكومة واحدة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ما يجري عملية مصالحة سياسية وتوحيد نظام سياسي لا تزال غامضة المعالم وهشة القوام ومهددة بالفشل؛ بسبب اللاعبين المضاربين على اختلاف مشاربهم. والمصالحة على أهميتها لن تكفي لحمايتنا من تكرار الفاجعة أو فشل المحاولة. النقاش المحتدم حاليًّا حول آليات وحيثيات المصالحة والخطوات التي اتخذها وسيتخذها الأطراف يُغفل عاملاً جوهريًّا لن تتحقق مصالحة حقيقة دونه، ألا وهو المصارحة.
من عاش ويلات الاقتتال الذي توّج بالانقسام وما تلاه من عذابات وامتهان لكرامة كلّ فلسطيني في قطاع غزة كان بمثابة رهينة لأمراء الانقسام المحليين والإقليميين يدرك تمامًا أنّ تداعيات الانقسام الخطيرة لا تنحصر في المجالات الحياتية والسياسية، بل هي بالأساس اجتماعية. من عاصر فجيعة قتل الأخ لأخيه والمجاهرة بنصر على ذويه يدرك أنّ الشرخ الذي قسم المجتمع الفلسطيني هوة سحيقة لا يمكن للكلام وتقديم الدية لمن قُتل في غمار الانقسام أن يصلحها.
والمصارحة تبدأ بالاعتراف أنَّ الانقسام لم يكن وليد لحظته ولا نتاج معركة تدحرجت دون حساب. الانقسام بالأساس هو نتيجة إرث من التحريض وشيطنة الآخر رسخت الانقسام قبل أن يجسد بالرصاص والدم. لم يكن الانقسام ليحصل لولا وجود ثقافة تصور الأخ على هيئة شيطان وتبارك قتله لدرجة ترسيخ قناعة أن دخول الجنة يكون بقتل الأخ الشيطان هذا؛ قناعة رسخها تجار الدم من الدجالين وممتهني الدين والسياسة وأبواق الإعلام الموجه للتحريض والكراهية وغيرهم من سماسرة الانقسام.
المواطن الفلسطيني في قطاع غزة مسكون بهموم حياته اليومية، ومسحوق في طاحونة العوز وانعدام الأفق. هذه أيضًا من تداعيات الانقسام. حقيقة أنَّ أسمى أمنيات الفلسطيني في غزة هو أن ينعم بالكهرباء، ولو لمدة 8 ساعات يوميًّا جريمة اقترفها الانقسام ومن تمسكوا به.
هموم الفلسطيني الغزي اليومية هموم لا تحتملها الجبال والمصارحة تقتضي أن نعترف لكل فلسطيني وفلسطينية في غزة أنهم أسطورة على شكل بشر، وأنّ الاعتذار لن يوفيهم حقهم، ولن يعوضهم عما بذلوه من أنفسهم وإنسانيتهم للاستمرار في الحياة والعطاء وتصدر الصفوف في الوطنية والتضحية. المصارحة تقتضي تقبيل جبين كلّ أم فقدت عزيزها، وكل أم شاهدت أرواح أبنائها وهي تنكسر نتيجة انسداد الأفق وانعدام الفرص وازدياد القهر بسبب انتصار إمارة الانقسام.
في أحد مخيمات القطاع، قابلت امرأة حوّلها الحزن إلى هيكل إنسان بعد أن قُتل ابنها على يد جماعة أخيه التوأم، ففقدت ولدًا للأبد وانهار الآخر من هول الصدمة التي رفض أن يصدّق تفاصيلها، فآثر الاستنتاج أنَّ جماعة أخيه التوأم قتلته حتى تتهم جماعته ظلمًا بقتل أخيه وتوأم روحه! "هذا عيني يما وهذا عيني. أنا كيف أدعي لله ينتقم من الي قتلوا ابني. كيف يما أبكي على ابني وأدعي على أخوه. أنا حسرتي حسرات ووجعي ما بعرف مداه غير رب العالمين"؛ هذا ما قالته لي عندما بدأنا الحديث. دمعتها لم تنكفئ وأشهد أن تضاريس الألم التي ارتسمت على وجهها محفورة في ذاكرتي.
من يبحث عن المصالحة يجب أن يبحث عن الأمهات والآباء والأولاد الذين كانوا حطب هذه الحقبة المعيبة والقذرة من تاريخنا. من يريد المصالحة عليه أن يجتث جذورها وأن يعالج العوامل التي أسست للانقسام وبررته وكبرت وهللت للدم الفلسطيني المسفوك باعتباره انتصارًا. المال ليس عنوانًا للمصالحة؛ لأنه دون المصارحة والاعتذار يكون محاولة لشراء الصمت وطمس الحقيقة ومنع تحقيق العدالة. مفتاح العدالة هو الحقيقة والاعتذار.
من حق الشعب الفلسطيني، وخاصة أولئك الذين خُطفت أعمارهم رهينةً للانقسام وصودرت أحلامهم فداءً له وقُتل أبناؤهم على قربانه؛ من حقّ هؤلاء أن يسمعوا كلمة حق ممن سحقهم دون وجه حق. من حقهم أن يتلقوا اعتذارًا وأن يُطلب منهم العفو والمغفرة على ما ارتُكب بحقهم من جرائم مادية ومعنوية. لن تكون هناك مصالحة حقيقية قبل أن تكون هناك مصارحة عما جرى وكيف ولماذا، وأن يكون هناك طلب صادق بالعفو عما ارتُكب من تشويه وقهر وسحق وتنكيل معنوي، طال الأحلام والمقدرات والتطلعات لشعب بأكمله.
تصارحوا حتى يتصالح المجتمع، ويطوي خلفه هذه الصفحة السوداء، لعله يجد في المصارحة بلسمًا لبعض جراحه ومخدرًا لبعض آلامه التي ستلازمه مدى الحياة. تصارحوا حتى يلملم المجتمع جراحه ويبني غده على أرض صلبة من الحقائق، بعيدًا عن منزلقات الشعارات الرنانة والمزايدات العبثية.