شتان بين الزهرة الطبيعية وشبيهتها البلاستيكية المصطنعة ، ففي الأولى تتلمس الحياة ، وفي الثانيةـ مهما كان جمالها ـ تستشعر سكون الموت ، وكأنك تتلمس جثة هامدة . هذا ما دار بخلدي وأنا أجلس إلى جوار الفنان الخطاط أحمد داري وأراقب بشغف طفولي قصبة الخط في يده ، وهي تتقافز من لحظة لأخرى بين ورقة الكتابة البيضاء ولوحته البلاستيكية ذات التجاويف المليئة بمختلف الألوان ، لتعود بحيوية إلى سطح الورقة الصقيلة فتدرُج على سطحها الأملس كراقصة (الباليه)، فتأسر هذه القصبة الخشبية منك العين والوجدان ، وهي تخطبزهو وكبرياء انحناءات الحروف العربية بألوانها المتداخلة واستطالاتها المميزة ، والتي غالباً ما تتلاحق بانسجام، لتتداخل وتتكامل بشكل قلب ، أو لتكتفي بنصف القلب في أضعف الأحوال!
لقد راقب عدد من زملائي أعضاء المجلس الاستشاري لوزارة الثقافة في محافظة بيت لحم الذين حضروا اللقاء ضيفنا الخطاط مثلما راقبت ، كما راقبه ضيفان صديقان آخران حضرا اللقاء ، وقد أعجبوا جميعاً بحلاوة خطه كما أعجبت ، ومع هذا لا أدري إذا كان بعضهم لما يحمله في نفسه من اهتمام ببعض الفنون الأخرى كالرسم والتطريز قد شعر بالأسى الذي شعرت به أنا لما أحمله في نفسي من اهتمام بالخط العربي الذي اتقن اثنين من خطوطه السبعة على الأقل، وهما : خط النسخ الذي رافقني في رحلتي التعليمية ، وخط الرقعة الذي رافقني فيها أيضاً ،وحظيت ـ قبل ذلكـ بدراسته على يد شيخ الخطاطين الفلسطينيين الخطاط الراحل محمد صيام رحمه الله .
والحقيقة أن الأسى الذي أتحدث عنه لم يكن وليد اللحظة التي كنا فيها ، ولكن هذا الموقف قد أعاد الأسى إلى البال بوطء شديد ، ذلك أنني بدأت أشعر بهذا الشعور منذ أن بدأت الكلمات بأشكالها الجديدة وحروفها ( المصطنعة ) ، وليدة التكنولوجيا ،تغزو شيئاً فشيئاً شوارعنا ومرافقنا المختلفة ، لتحل محل الخط اليدويّ الحيويّ الأصيل ، لتفسد علىمتذوق هذا الفن العريق ذوقه، ولتسلب الخطاط زهوه ، وهو الذي كثيراً ما تغنى بقول الشاعر :
الخط يبقى زماناً بعد صاحبه = وصاحب الخط تحت الأرض مدفونُ!
وإذا عدنا إلى الرسم والتطريز اللذين أشرت إليهما ضمن سياق النص ، فإنهما بطابعهما الأصيل ضحية لعسف التكنولوجيا أيضاً ، ومعهما غيرهما من الفنون كالموسيقا والنحت والنقش والطرق على النحاس.
فقد ابتلي الرسامون بسطوة التكنولوجيا كما ابتلي بها الخطاطون ، فها هو الحاسوب ببرامجه الخاصة بالرسم يمكنه أن يُعدّ أجمل اللوحات ، ليس هذا فقط ، بل بإمكانه أيضاً أن يقوم بطباعتها ونسخها ونشرها من خلال شبكة ( الإنترنت ) .
ولم يكن التطريز بمنأى عن هذه السطوة أيضاً ، فنحن في فلسطين ، ندرك كم كان يلزم من الوقت والعناء لتطريز ثوب واحد من أثواب أمهاتنا اللواتي تمسكن به على مدى أجيال ، ولكن تطريزه الآن في عصر التكنولوجيا لا يستغرق إلا وقتاً يسيراً جداً مما كان يلزم في سابق الأزمان، ولكن هل يمكنك أن تشتم في ثنايا هذا الثوب عبق الفنانة التي أنجزته بعرق أناملها وتركت عليه بنظراتها الملهمة ما بين الغرزة والغرزة أثراً للحياة ؟! بالطبع ستكون الإجابة بالنفي .
وإذا سألت أهل الموسيقا عن حالهم مع التكنولوجيا فسيثقلونك بالشكوى أيضاً من طغيانها ، فقد توفر في مجالهم هذا من الأجهزة الإلكترونية وبرامج الحاسوب ما جعلهم يفقدون متعة تربعهم على عرش الموسيقا ، ذلك أن تقنية الموسيقا قد سهلت أمام الباحثين عنها كل ما يتعلق بها من تشغيل وتأليف وتخزين وأداء ، ويكفيك أن تشهد حفلاً موسيقياً متواضعاً ـ في إحدى سهرات الأعراس ـ لترى ذلك بعينيك ، وتسمعه بأذنيك ، فيكفي أن يتوفر لدينا عدد قليل من الأجهزة ، أو جهاز واحد فقط ، لنستغني عن عدد كبير من العازفين ، لا بل إنه يمكنك الآن أن تستغني عن الاشتعال التقليدي لأفواه النساء بالزغاريد في الأعراس والمناسبات السعيدة ، لأن بإمكان هذه التكنولوجيا أيضاً أن تطلق الزغاريد !
أما فنون النحت والنقش والطرق على النحاس ، فيمكنك الحديث عنها في هذا الأمر أيضاً، وبإسهاب ، وبضمن ذلك عمل التحف المصنوعة من خشب الزيتون ، فقد أخذت التكنولوجيا الكثير من الدور الذي كان يؤديه الإنسان بأدواته البسيطة في هذا المجال ، حينما كان الإنسان الفنان يترك مع كل ضربة مطرقة أو نقرة إزميل في المادة التي يعمل على تشكيلها نفساً من أنفاسه ، فتمنحه كل الجمال ، ويمنحها بعض الحياة !فأين نحن من ذلك في أيامنا هذه ونحن نرى أمامنا القطع والمجسمات التي عملت التكنولوجيا على تشكيلها بعيداً عن أنفاس الإنسان ، لتكون هذه القطع والمجسمات أشكالاً مقولبة جميلة ، ولكن لا إيحاء فيها يشير إلى الحياة!
يا الله كم كانت سطوة التكنولوجيا شديدة على الفنون التي ابتدعها الإنسان على مدى الأزمان ، حيث شملت هذه السطوة جميع أنواع الفنون أو كادت ، ولربما كان الفن الوحيد ـ لحسن الحظ ـ الذي لم تحل فيه التكنولوجيا محل الإنسان هي الفنون الأدبية من نثر وشعر ، فهل يأتي ذلك اليوم الذي تطلبُ فيه التكنولوجيا من الشاعر ـ مثلاً ـ أن يبقى بعيداً ، لتقوم هي بنظم قصيدة موزونة ومقفّاة بدلاً منه ، وذلك بمجرد أن يزودها هذا الشاعر بموضوع القصيدة أو العنوان؟!