لماذا تكتب أيها الشاعر؟ ما معنى هذه الممارسة؟ هل فكرتَ مرة ماذا ستضيف إلى كوكب الأرض المكتمل من دونك أصلاً؟ ماذا تضيف إلى فصيلتك الحيوانية التي نزلت من الشجرة لتصعد إلى الوعي؟ ما جدوى ما تحاوله إذًا؟ ما مفهومك للكتابة وما وعيك الشعريّ الذي يحركك ويشعر القارئ بجمرته في كلماتك؟ هذي الأسئلة وغيرها هي منطلق الشعر الذي لا نهاية له ولا وصول إليه، وليس ما تخطه على البياض دون إدراكها سوى هدَرٍ تقدّمه قرابين إلى جوع النسيان الفادح. لكنّ ما تكتبه لا تحتاجه أنظمة الأرض وقوانينها، ولا يطالعه النمل ولا الطيور، لا تهتم به الكلاب والثعابين والعناكب، ولا يجذب أي حيوان آخر لا ينتمي إلى الإنسان. هل تأخذ هذا في الحسبان وأنت تكتب؟ هل تنتبه إلى أن فصائل الحيوان لا تهتم بركام نصوصك لأنها لا تملك الوعي؟ أحاول القول ربما: هل تعرف أنّ الشعر هو الوعي بالكتابة أولا، والرهان على تغيير وعي سائد أو الإضافة إليه أو بناء وعي آخر..
الآن؛ ثمة كتابة تصف الأشياء، تصوّرها بحرص مخرج هوليودي محترف، ترسمها واقعا على ورقة كما هي رسم ووجود في الواقع. وعلى كثرة هذا النوع من الحبر المهدور من حقنا أنْ نحاكمها ونسألها ماذا أضافتْ إلينا، ما الجديد الذي منحته إلى المخيال باعتباره آلة العقل الخلاّقة، وإلى الوعي بما هو إدراك العالم وفهمه واقتناص أسراره، إلى الحياة؛ هذا النهر المتدفق الذي لا يعود أدراجه إلى الوراء.
مشكلة هذا النوع من الكتابة هو غياب الوعي الشعري اللازم لفتح الرهان على ثلاث جبهات ذات أهمية بارزة على الأقل؛ أنْ تختلق العالم لتمنحه القيمة، ويحصل هذا لا بوصف الأشياء بل بالحفر عميقا في تموقعاتها باعتبارها حاضرة بالنسبة إلى الهوموسابيان(الكائن الواعي:الإنسان)، وأنْ تدرك علاقاتها لتقول المعنى أو تثبت موته حتى. والجبهة الثانية أنْ تستوعب النتاج الشعري في اللغة التي تكتب بها كي لا تعيد المعاد وتنتج المألوف، ولا تقع ضحية للذاكرة أيضا. ويكفيك هنا خجلا وأنت توظف لفظة القمر مثلا في استعمالات متشابهة أنْ تعرف أنها استُهلكتْ من طرف الشعراء عبر التاريخ حتى صار القمر شبهة تقليد خطيرة. أمّا الجبهة الثالثة فأنْ تختلف عن نصوصك السابقة، وأنْ تخوض مغامرة الكتابة باحثا في الأشكال عن أشكال ممكنة، وفي اللغة عن إمكانات جمل لم تُكتب بعد.
وبالحديث عن الأشكال الشعرية؛ من أنت أيها الشاعر كي تجعل من الشكل حزبا متطرفا وتعرّف الشعر، وهو أكبر من نصوصك العابرة، باعتبار القالب الذي تكتب فيه؟!!! ولذلك يمكن الحديث هنا عن سياسة القصيدة وعن ثلاثة أحزاب متطرفة هي بترتيب ظهورها:العمودي، التفعيلة، النثر. وكل مناضل يعتبر حزبه الشعريّ الحقيقة الوحيدة. إنها المهزلة العربية بامتياز، لأنّ الممارسة النصية المتحزبة تجانب أهم ما في الكتابة:الحرية.
ربما نتساءل الآن:هل أنت حر أيها الشاعر العربيّ حين تكتب نصا لا يزعج السياسي الفاسد ولا يقلق رجل الدين ولا يزعزع الأفكار العتيقة التي تحكم المجتمعات العربية؟ يعني هذا شيئا واحدا:أنك سجين يتخيّل نفسه طائرا في السماء وهو، تماما مثل بطل رواية لوكيوس أبوليوس، مصاب بلعنة رداءةٍ ويحمل أذنيْ حمار دون أنْ يدري.
تحدثنا هنا عن أمور كثيرة، لكن السؤال الأهم على الإطلاق:"لماذا تكتب أيها الشاعر؟؟". بطبيعة الحال لن يجيبك عن هذا إلا شخص واحد هو أنت بالضرورة، لكن فقط حين تبني وعيك بالقراءة العارفة والتجارب والفهم. فليس هذا المقال لتقديم المواعظ الشعرية لأحد، هو لطرح أسئلة تبدو مهمة، لنا على الأقل، أسئلة الوعي بالكتابة. ولذلك لا يعني كل هذا الكلام المهدور أني أقدّم لك إجابات، لا يوجد في الشعر فقهاء من حسن حظك ولا فتاوى مقدسة، ثمة دراويش ومجانين وفسقة وخبثاء كلام فاتنٍ سحرة يختلقون الفكرة والرؤيا في اختلاق الجملة المختلفة.
في النهاية؛ لن يضيف الشعر شيئا إلى الكوكب، كن متأكدا من هذا، لكنّ في مقدورك أنْ تضيف بالوعي إلى الإنسان والثقافة والمعرفة والحب، بإمكانك أن تخترق الكائن والمعاد لتكوّن رؤى أخرى. القصيدة لا تسدّ الجوعَ لكنها قد تحاربه، لا تطيع أية سلطة لتكون كل الحرية. ربما يمكن القول يا صديقي الشاعر إن الممارسة الشعرية لها موضوع واحد هو الحرية وما عداه هو ظلالها وأشجارها فقط.
كن واعيا وحرا ثم اكتبْ ما شئت.