لو أنَّ الذي ألقى كلمة فلسطين أمام الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، رجل غير الرئيس محمود عباس، لمرَّ الخطاب مرور الكرام، ولعدّه سامعوه صفحة جديدة تضاف إلى الموسوعة الفلسطينية في التنديد بإسرائيل، وانتقاد المجتمع الدولي على عجزه وإهماله.
أما وإنّ الذي ألقى الخطاب كان الرئيس محمود عباس، الذي ارتبط في ذهن الفلسطينيين والعالم كمهندس لأوسلو، فإنّ أقواله تتخذ بعدًا آخر وتقويمًا مختلفًا.
وقف الرئيس محمود عباس على الحافة، لم يفصل بينه وبين الإعلان عن نهاية أوسلو إلا شعرة، ولو لم يحسب جيدًا نتائج الإعلان الصريح، لكان قال قولاً آخر فيه عودة إلى ما دون الصفر في المعادلة السياسية التي طال احتضارها، دون أن يجرؤ أيّ طرف من أطرافها على إعلان وفاتها.
هنالك تعليق شعبي على خطاب الرئيس فيه صدق وعفوية من جانب جمهور واسع من الفلسطينيين ... "لقد شفى غليلنا".
فماذا يمكن للفلسطينيين أن يقولوا، وهم يعيشون أقصى درجات التنكيل الإسرائيلي بحاضرهم ومستقبلهم، وماذا يقولون عن التنكيل الإسرائيلي الأفدح، بآمالهم التي بنوها على وعود أوسلو، فإذا بكل وعد إيجابي تحول إلى عسكه، فصارت أوسلو بمثابة كابوس يجثم على الصدور، ويغلف المدى بظلام يكتسح المصير الفلسطيني، وفي حال كهذا الحال فإنّ من يبوح بانتقاد حتى لو كان مريرًا لإسرائيل، لا بد وأن يلامس ما يحب الناس أن يسمعوه، فأقلُّ ما يجب هو البوح بما كان صعبًا بالأمس.
لم يقل الرئيس صراحة وداعًا لأوسلو، فتلك جملة لا تقال في خطاب أو رسالة أو مقابلة صحفية، بل إنها لا تقال ولن تقال؛ لأنّ نهاية حقبة حملت عنوان أوسلو يكون بالسلوك واعتماد البدائل وتوفير مصداقية لما يفترض أن يكون جديدًا، ذلك أن أوسلو لم تكن مجرد ورقة جرى التوقيع عليها، بل كانت بناءً قيل: إنه مكون من أدوار عدة سقفه الأخير دولة حقيقية للشعب الفلسطيني، وحين وضعت الأساسات في البيت الأبيض، وبني الطابق الأول بفعل زخم التفاهم التاريخي، تمكنت إسرائيل وبفعل دعم أمريكي مباشر وغير مباشر، من الاستيلاء على ما فوق الطابق الأول، لتكمل البناء وفق أجنداتها وما يتفق مع مصالحها، وها نحن نرى ما نرى، وليس بين أيدينا سوى النزر اليسير من بقايا أوسلو، حتى حل الدولتين الذي اعتبرناه تنازلاً تاريخيًّا من جانبنا نستحق عليه دولة أو حتى شبه دولة، أخذ بالتلاشي لمصلحة بدائل غامضة يعد الرئيس الأمريكي بالإفصاح عنها خلال أيام أو أسابيع أو شهور.
قرأت اليوم في الصحف أنّ لجنة سياسية منبثقة عن اللجنة التنفيذية سوف تتولى مهمة وضع خطاب الرئيس موضع التطبيق، أو توخيًا للدقة، ربما دراسة كيفية معالجته، هذا الخبر لم يكن له لزوم، فالرئيس يعرف حدود قدرات اللجنة التنفيذية في قيادةِ تحول كبير ظهرت مقدماته في الخطاب، واللجنة التنفيذية ذاتها تعرف وتعترف، ليس بتواضع القدرات فحسب، وإنما بالغياب الكامل عن الشأن السياسي، هم يقولون ذلك، بعضهم يفضل الهمس ومعظمهم يقول ذلك صراحة، فكيف للجنة فرعية تنبثق عن اللجنة الأم يمكن أن تقنع إذا ما تولت مهمة خطيرة كهذه.
دعونا نقفز عن هذه الحكاية ونعود إلى جملة قصيرة قالها الرئيس في خطابه: "إننا سندعو مجلسنا الوطني أي برلماننا الشامل لمراجعة الوضع السياسي من كافة جوانبه".
كنت أفضل أن يذهب الرئيس إلى الأمم المتحدة بعد أن يعقد المجلس، ليقول للعالم: هذا قرار برلماننا، غير أنّ ذلك لم يحدث مع أنني لا أشك في رغبة الرئيس بعقد المجلس قبل الذهاب، إلا أنّ الذي حدث أن فيتو رفع من قبل فصيل أو أكثر أهدر الفرصة، وحجب دور البرلمان الفلسطيني عن وضع بصماته على خطابنا السياسي، الذي كان العالم كله في انتظاره، ولتعديل ما أراه سلبيًّا ومؤثرًا على المصداقية فيما يخص مهمة اللجنة الفرعية، باقتراح أن تكتفي بتوصية محددة هي استغلال زخم الخطاب على مستوى البرلمان الفلسطيني، وليس على مستوى لجنة فرعية سينظر إلى خلاصات عملها كما نظر إلى لجان سبقت.
لو نظرنا إلى الخريطة الإقليمية والدولية واحتمالات البدء بمحاولة جديدة لبعث عملية سلام، يكون ترمب صاحب المبادرة فيها ويؤازره فيها قوى نافذة في المنطقة والعالم، فإنّ ما ينتظرنا لن يكون سهلاً، وليس منطقيًّا أن نواجهه بتركيبة منهكة، ولا أريد أن أقول أكثر في هذا المجال.
آمل أن يكون العالم والأمريكيون بالذات والإسرائيليون، قد فهموا من الخطاب خلاصته السياسية، ليتعاملوا معه كتحذير من انهيار وشيك، لن يتأذى منه الفلسطينيون وحدهم، بل المنطقة بأسرها، التي فيها ما يكفيها ويزيد من عوامل الانفجار والدمار.