رؤىً في الفكرِ والسياسة
لعلَّ إحدى أهم العلامات الفارقة الَّتي ميَّزت مسيرة التسوية التي انطلقت في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام في عام 1992م؛ كانت تلك الآليَّة التي تقتضي البدءُ بالقضايا الأسهل؛ وترحيل القضايا الأساسيَّة الصَّعبة الى مرحلة مفاوضات الوضع النِّهائي – ومنها قضايا القدس والَّلاجئين والإستيطان - والَّتي كان من المُفتَرَض أنْ تبدأ في أيَّار عام 1999م وتنتهي بعد عامٍ من ذلك؛ وتلك الآليَّة كانت قد أبتدعتها الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة على يدِ " جيمس بيكر " وزير الخارجية الأمريكي الأسبق.
لقد أفلحت الدُّبلوماسيَّة الأمريكية آنَ ذاك في استثمار نتائج حرب الخليج الأولى؛ واستثمار التَّبدُّل في الوضع والمشهد الدَّولي الّذي تأتَّى نتيجة اختفاء الإتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية كقوَّة دولية وازنة؛ في فرض رؤيتها لمسيرة التسوية؛ وفي جلب الأطراف المتنازعة الى طاولة المفاوضات دون أنْ تُعطي لذلك أيَّ ضماناتٍ دوليَّة؛ وذلك في بيئة التَّفرُّد الأمريكي في مجريات السِّياسة الدَّوليَّة. بل إنَّ المُتَمعِّن للشروط التي انعقد مؤتمر مدريد للسلام وفقها يجدُ أنَّهُ انعقد ليس بعيداً عن الشروط التي فرضتها إسرائيل فيما يتعلَّق بآليَّات التفاوض عبر المسارات المنفردة والمتعدِّدة مع الأطراف العربيَّة؛ وعبر رفضها مناقشة القضايا الجوهريَّة التي هي جذر الصِّراع في المداولات الإفتتاحيَّة للمؤتمر؛ وبرفضها إداراج نقاش تلك القضايا على جدول أعمال مؤتمر مدريد؛ بحيث تحوَّل ذلك المؤتمر الى مجرَّد مؤتمر بروتوكولي حضرته الأطراف الدَّوليَّة بشكلٍ استعراضي بروتوكولي ليسَ إلَّا !!. ثُمَّ أُحيل أمر نقاش حتَّى القضايا الهامشيَّة الى المسارات المتعدِّدة المنفردة؛ وكانت أولى القضايا التي أُعطيت لها الأولويَّة هي قضايا التَّطبيع والإعلان عن انتهاء حالة الحرب والقطيعة بين إسرائيل والأطراف العربيَّة !!. وكان هذا شرطاً إسرائيليَّاً تمَّ إمضاءَه أمريكيَّاً بامتياز !!. وإذْ تعثَّر المسار الفلسطيني كما السُّوري؛ فقد دخلت المفاوضات عُنُق الزُّجاجة؛ ولم تُسعفها جملة التَّفاهمات الثنائية التي تمت على المسار السُّوري؛ كما لم تُسعفها حتَّى الآن جملة التفاهمات التي تمَّت على المسار الفلسطيني والَّتي توُّجت باتِّفاق إعلان المباديء الذي وقِّع في حديقة البيت الأبيض في 13/9/1993م؛ ثمَّ اتفاق القاهرة عام 1994م؛ ولا جملة التفاهمات التي أعقبت ذلك من اتِّفاق الخليل حتَّى " واي بلاي تيشن ". ولا جملة التفاهمات العديدة بوساطة المبعوثين الأمريكيين؛ ولا جولات المفاوضات المكُّوكيَّة الَّتي امتدَّت على مدار أكثر من عشرين عاماً مضت !!.
إنَّ هذا الإستعراض المُقتَضب السَّريع يُحيلُنا الى البحث عن جذر الخلل الَّذي اعترى عمليَّة التسوية ومنذ البداية؛ والَّذي تمثَّلَ في القاعدةِ الّتي تمَّت على أساسها عمليَّة التَّسويَة ذاتها؛ وهي قاعدة البدء بالأسهل وتأجيل بحث القضايا الأساسيَّة التي تمثِّلُ جذر الصِّراع؛ وترحيلها الى مراحل قادمة – ومنها قضيَّة مستقبل القدس – مِمَّا أتاح لإسرائيل المضي في فرض الوقائع السياسيَّة والجيوساسيَّة والدِّيمغرافيَّة على الأرض؛ ومّمَّا وضع الجميع أمام مُعضِلة الخيارات الصَّعبة فيما يتعلَّق بعمليَّة التسوية؛ وإنْهاء الصِّراع.
لقد فرضت الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة هذه المعايير على الأطراف العربيَّة؛ واستثمرتها إسرائيل على صعيد تجزئة القضايا وتمييع القضايا الأساسيَّة؛ وتهميش القضايا الجوهريَّة؛ بحيث تمَّ حصر مجريات التَّسويَّة في حيِّزات معايير الأمن الإسرائلي وإجراءَات بناء الثِّقة؛ قبل أيِّ شيء؛ وها هو موضوع القدس يدخل في حيِّز الجزئيَّة المُتَّصِلة بفتح أبواب المسجد الأقصى أو إغلاقها؛ وها هي إسرائيل وبالتَّدريج تُفلِحُ في جرِّ الجميع الى مربَّع ترتيبات إجراءَات العبادة في المسجد الأقصى؛ فيما فرضت مئات الوقائع الَّتي تستحيل الى واقعٍ مستحيل في القدس وغلافها !!.
إذنْ هو الخلل الجوهري الَّذي اقتضته ضرورات الدُّبلوماسيَّة والمصلحة الأمريكيَّة والإسرائليَّة التي اعتمدت تجزئة القضايا الجوهريَّة وترحيلها؛ تحت شعار إجراءَات بناء الثِّقة؛ كما اقتضاه تجاوب الأطراف العربيَّة مع ذلك المنهج وتلك الجهود رهاناً مطلقاً على الدَّور الأمريكي. وهي بدعةٌ أمريكيَّة لم يسبق لها مثيل في تاريخ فضِّ النِّزاعات؛ إذْ أنَّ الأصل هو حلِّ القضايا الجوهريَّة؛ فيما يأتي حل القضايا الهامشيَّة والجزئية والإجرائيَّة كنتيجة ومُحَصِّلَةٍ تلقائيَّةٍ لحل القضايا الأساسيَّة وليس العكس كما جرى ويجري حتَّى الآن على صعيد الصِّراع العربي الإسرائيلي !!.
وإذْ ذاك فلا مناص أمام الفلسطينيين تحديداً والعرب عموماً من العودة مجدَّداً الى محاولة استثمار إرهاصات تبدُّل المشهد الدَّولي البادية في أفق السِّياسة الدَّوليَّة والعمل على تعزيزها؛ ولا مناص من مراجعة مسار ومنهج التسوية وفق المعايير الأمريكيَّة؛ ومغادرة منطق التَّمسُّك بآليَّاتٍ سياسيَّة أثبتت الوقائع والمجريات عدم صحَّتها.