لا شك أن موضوع التنسيق الأمني من أكثر المواضيع حساسية ومثاراً للجدل في السياسة الفلسطينية. ورغم كثرة الحديث عن الموضوع، إلا أن تفاصيل التنسيق الأمني، من حيث مدى سيطرة المستوى السياسي عليه ومتابعته لتفاصيله، وكيف يتم، وعلى أي مستوى، وما هي طبيعة المعلومات التي يتم تمريرها وبأي وسيلة اتصال، تبقى قيد الكتمان ولا نعرف الكثير عنها.
كما لم يجر أي حوار هادئ وموضوعي على المستوى الوطني بشأن التنسيق الأمني، وإنما للأسف نجد أن لغة التخوين والمزايدات السياسية هي التي تحكم منطق النقاش في هذا الموضوع في أغلب الحالات. ولعل موضوع المصالحة وفتح الحديث في كافة الملفات، بما في ذلك سلاح المقاومة والسلاح الواحد، يقتضي أن يتم فتح ملف التنسيق الأمني بالتوازي، ونقاشه بشكل وطني ومسؤول مع باقي الملفات الأخرى.
لا تجد في الساحة الفلسطينية من يدافع عن فكرة التنسيق الأمني من حيث المبدأ، والمؤيدون له يعتبرونه شراً لا بد منه، او التزاماً قانوناً وسياسياً فرضته اتفاقيات أوسلو ولا يمكن الفكاك منه إلا بالخروج على قواعد لعبة أوسلو برمتها. والمعارضون له، وهم الأغلبية الساحقة، يركزون على البعد السياسي والوطني، في حين لا يثير أحد البعد الحقوقي والقانوني.
وهنا يجب التفريق بين التنسيق الأمني والتعاون القضائي. فالتنسيق بين اجهزة الامن وتبادل المعلومات الامنية هو امر روتيني في عالم المخابرات، وقد ازداد هذا الأمر بشكل كبير في العقدين الاخيرين في ظل ما تسمى الحرب العالمية على الارهاب، باعتبار ان الارهاب جريمة عابرة للحدود ومواجهته تحتاج إلى تنسيق استخباراتي بين الدول. وعادة يتم هذا النوع من التنسيق بسرية وخارج الأطر القانونية والقضائية، ويتم أحيانا دون رقابة كافية من المستوى السياسي. وقد أثار موضوع التعاون الاستخباراتي الكثير من الجدل في السنوات الأخيرة نتيجة لما ترتب عليه من انتهاكات لحقوق الانسان، خاصة في سياق مكافحة الارهاب، التي شهدت ذروتها في عهد الرئيس الامريكي بوش الأبن، ومن أمثلة ذلك قيام المخابرات الامريكية بالتعاقد من الباطن مع دول لإدارة سجون سرية يتم فيها تعذيب مشتبهين، او تقديم معلومات إلى دول أدت هذه المعلومات إلى قتل اشخاص خارج إطار القانون او تعرضهم للتعذيب.
وقد أشارت المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان في قرار صدر عنها في سنة 2016 (قضية سابو وفيسي ضد هنغاريا) إلى تزايد حجم التعاون الاستخباراتي فيما بين الدول الأعضاء ومع دول من خارج مجلس أوروبا، وطالبت المحكمة الدول زيادة الاهتمام والرقابة الخارجية على موضوع تبادل المعلومات الاستخبارية، وأيضا توفير تدابير إنصاف للمتضررين. وقد أشار المفوض السامي لحقوق الانسان في الأمم المتحدة في تقريره حول الحق في الخصوصية في عصر الرقمنة (صادر 2014) إلى ضرورة ممارسة رقابة خارجية على أجهزة الاستخبارات في موضوع تبادل المعلومات، وعدم الاكتفاء بأدوات الرقابة الداخلية في هذه الأجهزة.
وعادة يتم تبادل المعلومات الاستخباراتية او التعاون الاستخباراتي بين دول ذات سيادة، ويبقى في إطار المعلومات. فاذا ترتبت عليه نتائج أو ملاحقات قانونية يتحول إلى إطار التعاون القضائي الذي يكون عادة منظم وفق اتفاقيات ثنائية أو دولية، ويخضع للرقابة القضائية، ويتم في العلن.
لكن التنسيق أو تبادل المعلومات الأمنية بين دولة الاحتلال التي تنتهك حقوق الانسان الفلسطيني بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع، وترتكب بحق المدنيين جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وبين السلطة الرسمية التي تمثل المواطنين الخاضعين للاحتلال، والتي لا تملك السيادة على الأرض وليست لديها القدرة على توفير الحماية لمواطنيها في مواجهة سلطات الاحتلال، فهو موضوع واضح من حيث مخالفته للقانون الدولي لحقوق الانسان.
فدولة الاحتلال لا تحترم حقوق الانسان ولا تتورع عن اعدام أي مواطن فلسطيني خارج إطار القانون بمجرد اعتباره خطرا أمنيا أو "قنبلة موقوته" حسب التعبير المستخدم في المخابرات الاسرائيلية، وفي حالات كثيرة قامت سلطات الاحتلال بهدم البيت فوق راس المطلوب وساكنيه من المدنيين الابرياء وقتل الشخص المطلوب وعائلته وجيرانه، دون أن تجري له أية محاكمة يتاح له فيها حق الدفاع.
وفي حال اعتقال الفلسطيني فإنه يتعرض بالعادة إلى تعذيب ممنهج وقاس (حوالي 90% من المعتقلين يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة)، وتتم محاكمته من قبل محاكم عسكرية لا توفر الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة، أو تتم إحالته إلى الاعتقال الإداري دون محاكمة ويمكن تمديد الاعتقال لفترات طويلة قد تمتد إلى عدة سنوات. وخلال فترة الاعتقال يعيش المعتقل في ظروف غير انسانية بعيدا عن عائلته في سجون بنيت داخل حدود الدولة المحتلة، في مخالفة صريحة للقانون الدولي. كذلك فإنه في حال تصنيف أي مواطن فلسطيني بأنه خطر أمني، فإن العقاب في العادة يتعداه ليشمل افراد عائلته ودائرته الاجتماعية المقربة الذين قد يجدون أنفسهم محرومين من السفر أو من الحصول على تصاريح حركة ضرورية للعلاج أو التجارة.
كل هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان من قبل سلطات الاحتلال التي تستبيح دم وحرية وممتلكات المواطن الفلسطيني دون أي شكل من اشكال الحماية القانونية، يفرض على الجهات الرسمية واجبا قانونيا واخلاقيا بممارسة رقابة صارمة على عملية التنسيق الأمني، بما يضمن عدم تمرير أي معلومة قد تؤدي إلى انتهاك أي حق من حقوق الانسان المكفولة في الاتفاقيات الدولية.
فحقوق الانسان هي قيم عالمية والتزامات قانونية دولية ونحن في فلسطين اصبحنا ملزمين بها بعد انضمامنا لعدد كبير من اتفاقيات حقوق الانسان، بما فيها اتفاقية مناهضة التعذيب، والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، واتفاقيات جنيف، وميثاق روما لمحكمة الجنايات الدولية، وجميع هذه الاتفاقيات تنتهكها سلطات الاحتلال بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع.