في مساء ما، قبل عدة سنوات تقريباً، وعلى شرفة منزله كنا ثلاثة من تلاميذه، ربما لم تلفتنا البواخر البعيدة، وأنوار الأبراج الشاهقة، ولا الحكايات القديمة عن ساحل تلك البلاد، التي لم نزرها إلا في الروايات ونشرات الأخبار التي تبثها محطة تلفزيونية يعلوها شمعدان ما. ثلاثتنا أخذنا نتأمل الكلمات والتفاصيل التي نعرفها أو سمعناها وحفظناها، وبصوت واحد قلنا: "هذه رواية ملهمة ومشوقة لكنها ليست لنا بل لجمهور غربي..." والصوت الذي قابل هذا الرأي الصريح كان جملة ما زلنا نذكرها حرفاً حرفاً: "إن كانت جدتي تفهم في النقد أنتم تفهموه"...!
هذا العام، أطالع رواية "إلى الغرب من نهر الأردن" بجزئها الأول "كفر عويناس" للدكتور والإعلامي موسى عليان، التي صدرت عن دار فضاءات في العاصمة الأردنية العام 2011، والتي تصنف من القطع المتوسط، والتي تقع في أربعمائة وخمسين صفحة، وما يثير الانتباه أن الرواية حازت على إعجاب الجمهور الغربي واهتمامه خاصة الاسباني بعد أن ترجمت للغة الاسبانية.
لست هنا لأقول: "إن التلاميذ والجدات كثيراً ما تصدق نبؤاتهم في عالم النقد"، بل لنذهب مع الكاتب سوياً إلى قرية "كفر عويناس" المتخيلة التي تدور فيها أحداث الرواية، وفي أزقتها وحواريها نتلصص ليس كمخبرين عن رجالات الانتفاضة الشعبية، بل لنسرد حكايات ذاك الزمن الذي أعاده لنا الدكتور عليان عبر هذا الجزء بتفاصيل دقيقة ومحاولة صادقة؛ لتوثيق الواقع الفلسطيني وتناقضاته، وأشكال النضال من أجل التحرر من المستعمر الغريب، وبالمقابل التخلص من التقاليد والقيم البالية التي فرضتها ظروف تاريخية قاسية.
في "كفر عويناس" نقفز من فوق سور حجري يلف حقل زيتون زرعه صاحبه بحنو فائق، وهناك من جانب مغارة ما يزال سقفها ترشح منه رائحة البارود والوجع، ندخل مع بطل الرواية "قيس" إلى عالم قريته، فهو الشخصية المركزية التي تمثل شخص المقاوم والتحرري، الذي يقارع المحتل؛ ليعلن الخلاص منه ويقتلع أنياب الجهل والتخلف الذي يصفه الكاتب بالتحرر الداخلي، وكلما نقفز من فوق سور أو نزور بيتاً ما، فها نحن نتعرف معاً على سكان القرية، فهنالك أهالي العشيرتين الكبيرتين، ومنهما المختار وعائلته، ودافيد الذي يختبئ باسم مبارك والذي يسعى جاهداً لتشكيل خليه من العملاء تهدف إلى قمع الانتفاضة وتفتيت جسد المجتمع ونشر الفساد فيه، ومن ثم نجد أنفسنا داخل عيادة "كفر عويناس" حيث تثيرنا الخبايا والقصص الحميمة واكتشاف لذة الجنس، ومن شبابيكها تطل علينا النساء وأكثر نسمع أصواتهن في الأعراس، ومن خارج القرية نشاهد الطبيبة "ايمان" التي تقف مع زوجها "قيس" وتشاركه معركة الحياة، وليس بعيداً عن كل هؤلاء هناك الفتية ورجالات الفصيل الجديد الذين يظهرون فجأة في ساحات "كفر عويناس" حتى "شلومو" التي تجمعه علاقات صداقة طيبة مع أهالي القرية نجده حاضراً في مناسباتهم على الرغم من سياسات حكومته القمعية، ومن بعيد يترجل قادة الانتفاضة الذين يحملون الآن على اكتافهم رتباً عسكرية توحي ببداية عهد السلام- السلام الذي ربما أسدل الستار على شاهدة رخامية اسمها الانتفاضة الشعبية...!
من هذا المشهد نأتي للحديث عن لغة الرواية، فكما جاء في مقدمتها "فهي تأتي متوسطة بين الأسلوب الأدبي والصحفي، كما أنها قريبة إلى شكل الحبكة السينمائية، مما يسهل قراءة الرواية ويجعل مطالعتها ممتعة.." باعتقادي ان توظيف هذه اللغة يسهم في جذب جمهور مختلف ومتنوع، ويسهل من تخيل المشاهد والأحداث التي تجري داخل "كفر عويناس".
في التأمل باسم القرية أرى بأن هذا الأسم جاء موسيقياً حين يلفظ باللغة الاسبانية خاصة وكما أشرت أن الرواية حققت نجاحاً في أوساط الجمهور الاسباني، وبعيداً عن الاسم هنالك العديد من الطقوس والمناسبات التي تم وصفها بإسهاب، وأعتقد هنا اننا كجمهور محلي نعرفها تماماً لكن القارئ الغربي تلفته هذه الأشياء، فهناك تفاصيل عن العرس القروي، وموسم قطف ثمار الزيتون، وأكلة المسخن الشعبية التي تشتم من صفحات الرواية رائحة خبز الطابون البلدي، والبصل القروي، والدجاج المحلي وغيرها من القصص المماثلة.
من الصور الإبداعية التي استوقفتني، خطاب أحد الفتية مؤبناً رفيقاً له استشهد، لم يلتزم بالبيان المكتوب بل تذكر مباراة كرة السلة التي جرت في ساحة المدرسة وفي الثواني الأخيرة من المباراة سجل الفتى – الشهيد- هدفاً ليعلن انتصار فريق قريته على فريق بلدة مجاورة، والآن وفي نفس المكان سجل نقطة فوز على مستعمر لعين، لكن هذه المرة ليس بكرة مطاطية بل بدمه، هذا الربط لا يمكن أن نتخيله إلا ان يتجسد في مشهد سينمائي لا سيما وانه كسر فكرة الخطاب النمطي وجاء مجسداً رسالة قوية عن الحياة العادية ولو من خلال لعبة السلة.
في عالم "كفر عويناس" يحاول الكاتب أن يطرق، بيده الجريئة، أبواباً موصدة، ومن هذه الأبواب التي طرقها أكثر من مرة، باب الجنس، ومن هنا أشير لموقف حصل مع "قيس" حين صارحته حبيبته "إيمان" بأنها ليست عذراء، وبعد أن يختلي بنفسه في مغارة بعيدة، يسترجع بذاكرته ما تعلمه من محيطه عن غشاء البكارة بأنه "ختم رباني دليل على طهارة المرأة.. فهذا الغشاء العبثي تحول إلى صك غفران يمسح ويغفر للمرأة كل ذنوبها ..." بعد صراع وحوار مع نفسه يتخذ "قيس" قراره ولا يكترث بهذا الختم بقدر ما يعنيه حب "ايمان" له وقناعته بها، توظيف هذه الحادثه له، مغزى واضح، مفاده أن الثوري لا تعنيه هذه الحواجز المادية بقدر ما تعني له المبادئ وأفكاره الحرة، والأهم أن عفة المرأة لا يمكن حصرها في غشاء رقيق، فهي أعمق وأكبر من أن يحكم عليها من خلال هذا الغشاء..!
ومن الأبواب الموصدة إلى العقلية القروية، يأتي الكاتب على ذكر الكثير من المواقف والأحداث التي تكشف واقع العادات والتقاليد والقيم التي تغلب على عائلات القرية والتي قصد أن يسميها "العشائر" فهو يعي تماماً ماهية الاسم ودلالته التي تعكس قوة الروابط بين العائلات الكبيرة وعدم الاحتكام للغة الحوار في كثير من الخلافات التي تنشب داخل "كفر عويناس" وبالمقابل تدخل بعض الشبان وبحكم العمل المقاوم الذي يوحدهم للامتثال للغة العقل والحكمة، وهذا ما نشهده جلياً في شخص "قيس" ورفاقه الذين يحاربون ضد مستعمر شرير وتخلف شرس.
كما يكثف الكاتب من المشاهد التي تتناول العديد من القضايا الشائكة، فهنالك صراع الأجيال في الوطن والمهجر، ومصير المتعاونين مع الاحتلال وموقف الأهالي من خيانتهم لبلدهم، ورغبة المرأة في اثبات ذاتها في مجتمع ذكوري وغيرها من الصور.
وقبل أن نخرج بمعية "قيس" من "كفر عويناس" لكن هذه المرة ليس عبر حقول زيتونها وأسوارها الحجرية بل من مدخلها الكبير، لكننا نودعها وما تزال الدهشة تحتل ملامح وجه "قيس"، والأسئلة الكبيرة تشغل باله عندما رأى مسؤوله في "التنظيم" يزوره في "كفر عويناس" مع ضباط إسرائيليين، لم يتخيل هذا المشهد أبداً، لكنه سيدرك أن هذه هي حتمية مرحلة جديدة عنوانها: "اتفاق وسلام" !
رواية "كفر عويناس" وثيقة تاريخية ليست لنا فحسب، بل للأجيال الشابة القادمة، هذه ليست قراءة نقدية، ولا مراجعة أدبية ولا مقالة صحفية، بل هي أقرب إلى دعوة مجانية لزيارة "كفر عويناس"، وما زلت اعتقد منذ أن طالعت مسودتها الأولى أنها هي المزلاج الذهبي ليس لبابنا نحن بل لباب غربي.
اليوم أو ذات يوم.. ستجلس "كفر عويناس" على رف مكتبة جامعة أوروبية أو بين يدي حسناء غربية ...! أو ربما في ذاكرة جدة تحرص كل الحرص على "حكاية ما قبل النوم" لأحفادها.... من يدري ؟! فهي النص الأجمل لمن يريد أن يعرف عنا أكثر ... هي المفتاح لهذا الباب...!