لا بأس من الحديث مُجَدَّدًا عن موضوعِ محاولة إعادة صياغة مستقبل أوضاع المنطقة من وجهة النَّظر الإسرائيليَّة؛ فعلى هامش الحديث المتواصل عمَّا يجري في كلٍّ من العراق وسوريا –وتحديدًا فيما يخص مسألة إجراء الاستفتاء في كردستان العراق- أخبرتنا وزيرة العدل الإسرائيليَّة " إييليت شاكيد " ذات مرَّة وخلال العام الماضي، وفي مُحاضرة لها تناقلتها وسائل الإعلام الإسرائيليَّة على نحوٍ لافتٍ، أنَّهُ قد آنَ الأوان لكي تقوم إسرائيل علنًا بالدَّعْوَةِ لإقامةِ دولَة للأكراد ما بين إيران والعراق وتركيا وسوريا، وأنَّ ذلك –بحسَبِ تعبيرِها -سيعني– قيام كيانٍ سياسيٍّ صديقٍ لإسرائيل يُعطي الأكراد حقوقَهُم السِّياسيَّة كأكبَرِ شعبٍ موجودٍ على وجهِ الأرضِ بلا دولة –على حدِّ تعبير الوزيرة الإسرائيليَّة– هذا من جهة، وبحيثُ يمثِّلُ هذا الكيان الكردي حائلاً جيوسيًّا وديموغرافيًّا –جغرافي وسياسي وبشري– بين تلك الدُّول وإسرائيل، وتحديدًا بين كلٍّ من إيران وتركيا من جهةٍ، وإسرائيل من جهةٍ أخرى.
أتى هذا الكلام الذي صدر عن وزيرة العدل الإسرائيليَّة في سياقِ ما كان قد تحدَّثَ به "بنيامين نتنياهو" قبل عقدينِ من الزَّمن، أي في مطلع التِّسعينيات، في كتابه "مكان تحت الشَّمس" عن ضرورة أنْ تتم إعادة صياغة المنطقة ودولها على ضوءِ التَّعدد والتَّنوع المذهبي والإثني والعِرْقي، وعلى اعتبارِ أنَّ ما يُطلَقُ عليه بالعالم العربي هو مجرَّد أكذوبة يجب العمل على تصحيحها من خلال العمل على إنشاءِ الكيانات الإثنيَّة والعرقيَّة الخاصَّة بالأقليَّات التي تتخلَّل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بحيث لا يمكن اعتبار الدُّول القائمة فعليًّا في الوطن العربي دولاً حقيقيَّة بالمعنى القومي والتَّاريخي والقانوني – على حدِّ تعبيره !!.
وبحَسَبِ ما أخبَرَنا به رئيس الأركان الإسرائيلي "غادي آيزِنكوت" في تصريحاتِه ذات مرَّة أيضًا؛ فإنَّ التهديد الإستراتيجي الَّذي يُواجه إسرائيل وحتَّى أمدٍ بعيدٍ يتمثَّلُ في إيران، وذلك على ضوءِ دخول اتِّفاقِها النَّوَوِيِّ مع الدُّول السِّت الكبار حيِّزَ التَّنفيذ، وما يعنيه ذلك من رفعٍ للعقوبات الاقتصاديَّة المفروضَةِ عليها، والإقرار بحقِّ إيران في إنتاج الطَّاقةِ النَّووَيَّة واستخدامها –وإنْ كان لأغراضٍ مدنيَّة وليست عسكريَّة بحسب الاتفاق– والإقرار
الضِّمني بحقِّها في التَّصنيع العسكري وإنتاج الصَّواريخ البالستيَّة متوسِّطةِ وبعيدة المدى، وكذلك استيراد التكنولوجيا العسكريَّة.
على الدَّوام هناك انفعال الإسرائيلي متصاعد تجاه إيران في سياقٍ زمنيٍّ تشهد فيه العلاقات الإيرانيَّة الخليجيَّة توترات متصاعدة على المستويات الدُّبلوماسيَّة والعلاقات البينيَّة، وافتراقًا وتناقضًا مُتزايدًا في كلٍّ من ساحات سوريا واليمن والعراق، وانخفاضًا مُطَّرِدًا في مستويات العلاقات الاقتصاديَّة والتجاريَّة والمصرفيَّة بين إيران ودول الخليج، ويأتي ذلك أيضًا في الوقتِ الَّذي تشهد فيه العلاقات الأوروبيَّة الإيرانيَّة والتركيَّة الإيرانيَّة انفراجًا متزايدًا. في هذه الأجواء وبحَسَبِ "دوري غولد" فإنَّ إسرائيل باتَت اليوم تتحدَّثُ مع أغلب الدُّول العربيَّة بشكلٍ مباشر، وبحَسَبِ نتنياهو فإنَّ مستوى العلاقات والتَّنسيق بين إسرائيل والدُّول العربيَّة اليوم لم يسبق له مثيل في يومٍ من الأيَّام.
بكلِّ الأحوال، فإنَّ المتَتَبِّع لاهتمامات الدُّبلوماسيَّة الإسرائيليَّة، من خلال ما يصدر على هامش حركتها من تصريحاتٍ علنيَّة، وكذلك لاهتمامات وسائل الإعلام ومراكز البحث والتحليل الإستراتيجي الإسرائيليَّة الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة، عوضًا عن اهتمامات وأولويَّات ونشاطات الحكومة الإسرائيليَّة، فإنَّه يُلاحِظُ جملةً من الأمور، التي يمكنُ تلخيصها بما يأتي:
- على صعيد القضيَّة الفلسطينيَّة والعلاقة مع السُّلطة الفلسطينيَّة، يجري الحديث فقط في مستويات العلاقة الأمنيَّة مع السُّلطة، برغم حالة التَّوتر التي تسود في الضِّفة الغربيَّة بين فينةٍ وأخرى، ويجري الحديث بشكلٍ مركَّز حول خيارات حلِّ السلطة الفلسطينيَّة أو توفير البدائل عنها أو إعادة صياغتها من جديد، وتقليص احتمالات زيادة ولايتها الجغرافيَّة على مزيدٍ من المناطق المصنَّفة (ج) وتواتر وتزايد التصريحات والمواقف الرَّسميَّة الحكوميَّة الإسرائيليَّة الدَّاعمة لتكثيف الاستيطان، ومواصلة طرح المشاريع والعطاءات الخاصَّة بمزيدٍ من الكتل الاستيطانيَّة. والتَّعامل مع قطاع غزَّة ككيانٍ مستقل بحكم الأمر الواقع تحكم العلاقة معه معايير توازن أو تفوُّق عوامل الرَّدع إسرائيليًّا.
- على صعيد التَّهديدات الإستراتيجيَّة لا يجري الحديث عن الدُّول العربيَّة كمصدرِ تهديدٍ ولو حتَّى مُحتمل على المدى المنظور، بل يتمُّ تناول الأمر وكأنَّ تلك الدُّول ليست دولاً حقيقيَّة في منظور الحسابات الإستراتيجيَّة
الإسرائيليَّة، ويتم تناول العلاقة معها على اعتبار المصالح المشتركة، وأنَّ أمر التطبيع معها هو تحصيل حاصل بغضِّ النَّظر عن تعقيدات القضيَّة الفلسطينيَّة، وعوضًا عن ذلك يجري الحديث بشكلٍ مُركَّز وكثيف وانفعالي عن إيران، ويجري التَّلميح من بعيد إلى تركيا كدولة منافسة على الصَّعيد الدبلوماسي والاقتصادي والاستراتيجي مستقبلاً.
- وعلى صعيد العلاقة مع الإدارة الأمريكيَّة يجري البحث عن لغة القواسم المشتركة بين إسرائيل وبعض الدُّول العربيَّة فيما يخُصُّ توجيه الانتقادات للسياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة فيما يتَّصل بمواصلة الالتزام بالاتفاق النَّووي مع إيران، وتلك السِّياسات الأمريكيَّة الخاصَّة تجاه إيران وتنامي الدَّور الرُّوسي دوليًّا والَّتي انتهجتها الإدارات الأمريكيَّة المتعاقبة ابتداءً من إدارة كلينتون مرورًا بإدارة أوباما وصولاً إلى إدارة ترامب الحالية، والتي تجيءُ في سياق مواجهة أو التعاطي مع الدَّور الإيراني والرُّوسي في المنطقة وخصوصًا في كلٍّ من سوريا واليمن والعراق. وهنا لا بدَّ من استحضار ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش منتدى "دافوس" الاقتصادي الأخير الذي انعقد في سويسرا، حينما خاطب دول الاتِّحاد الأوروبي التي تُبدي مزيدًا من الاعتراض على نشاطات إسرائيل الاستيطانيَّة بالقول: أدعو دول الاتِّحاد الأوروبي أنْ تحذو حذو دول الاعتدال العربي في موقفها حيال إسرائيل!!.
وربما تعتقد إسرائيل الآن أنَّ زمن الحديث عن التَّهديدات العربيَّة لها وتوظيف ذلك على صعيد العلاقات العامَّة وابتزاز المواقف الدَّوليَّة وتبرير سلوكها وبناءِ مزيد من القوَّة لصالِحِها قدْ ولَّى وأصبح فاقدًا للصلاحيَّة في عَتْمَةِ ظِلالِ تهتُّك المشهد العربي إلى حدودٍ مريعة، وفي غمرَةِ غياب أيِّ دور عربي ولو في الحدود الدُّنيا فيما يتعلَّق بمجريات انحدار مستوى الاهتمام بالقضيَّة الفلسطينيَّة، أو بوقائع ومجريات الاشتباك الميداني مع الشَّعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلَّة، وإنْ بمستويات منخفضة، ويجري الآن توظيف الماكينة الدُبلوماسيَّة والإعلاميَّة والدِّعائيَّة الإسرائيليَّة لحساب الحديث عن تهديداتٍ أخرى تبدو أكثر جديَّة. ولكن سياق التفاهمات الدَّوليَّة مع إيران –على سبيل المثال- يشي بغيرِ تحقيق نتيجة ملموسة لصالح الدِّعاية الإسرائيليَّة حتَّى الآنْ على الأقل.
إنَّ إعلان وزيرة العدل الإسرائيليَّة إييليت شاكيد -على سبيل المثال- عن ضرورة العمل على إنشاء دولة للأكراد تمثِّلُ عازلاً في الشَّرق بين إيران وإسرائيل، وقاعدة للتعاون ضد التهديدات الإستراتيجيَّة على إسرائيل في
شمالِ العراق وجنوب تركيا على الحدود الشَّماليَّة الغربية لإيران وفي خاصرة تركيا الجنوبيَّة الشرقيَّة وفي شمالِ سوريا –كما تعتقدُ وزيرة العدل الإسرائيليَّة- ربَّما يُعيدُ إلى الأذهان مسألة كيفيَّة التَّعامل الإسرائيلي الاستباقي مع إمكانيَّة التَّحقُّق الواقعي والموضوعي لمفهوم "قوسِ التَّهديد الإستراتيجي" في حال آلت الأمور في سوريا والعراق إلى الاستقرار وانبعاث تلك الدُّول من جديد، ذلك القوس الَّذي كان يجري الحديث عنه في إسرائيل منذ سنوات، والَّذي رُسِمَ كقوسٍ قاعدته في إيران مرورًا بشمال العراق وسوريا وانتهاءً بجنوبِ غربِ سوريا والجنوب اللُّبناني.
وهذا الحديث عن دولَةٍ للأكراد وإنْ بدا يسبَحُ على عكسِ تيَّاراتِ إراداتِ دولٍ فاعلة كتركيا وإيران، وبقايا إراداتِ دولٍ كالعراق وسوريا، فإنَّ إسرائيل لنْ تألو جهدًا في محاولة إثارةِ هذه المسألة، على أملِ توظيفها وتوظيف مفاعيل الفوضى في المنطقة لصالح إدامةِ مناخ عدم الاستقرار في منطقة الشَّرق الأوسط عمومًا والمنطقة العربيَّة تحديدًا، بما يُبقي القضيَّة الفلسطينيَّة ومسألة الصِّراع مع الفلسطينيين في ذيلِ قائمة الاهتمامات الدَّوليَّة والإقليميَّة والعربيَّة على حدٍّ سواء.